ملف «تشرين».. إفريقيا تنتفض.. هل تدق القارة السمراء المسمار الأخير في نعش الهيمنة الغربية؟
تشرين- أمين الدريوسي:
تعود القارة السمراء مرّة أخرى لتتصدر رأس الأحداث وعناوين الصحف ومقدمات نشرات الأخبار في العالم.. لتعلن عن نفسها أنها تريد الانعتاق من الاستغلال والاستعمار الغربي وتريد النهوض من تحت الركام بعدما كانت عنواناً للعبودية والعنصرية واستغلال البشر ونهب الأرض واستغلال الإنسان.
ها هيّ إفريقيا السمراء وذات الأرض الخضراء الغنية بالثروات والفقيرة بحياة شعوبها، تعلن وقفتها وصحوتها من القهر والاستغلال ونهب الثروات واغتصاب الحقوق وظلم الأرض والطبيعة والإنسان.. وتنتفض كما انتفضت في الخمسينات والستينات بوجه الاستعمار.
لكن يبدو أن الدول التي دأبت على استعمار الشعوب ونهب خيراتها لن تترك هذه القارة ودولها تحقق ما تصبو إليه، إذ تواصل ولا تزال تحلم بمد استعمارها إلى إفريقيا, ونهب ثروات القارة, ومحاولة إبقاء الأفارقة في أتون النار, مع اتساع رقعة التمرد على النظام الغربي المفقّر للشعوب الحالمة بالحرية.
من انقلاب النيجر.. إفريقيا تعلن انتفاضتها ضد الاستغلال
الحقيقة، إفريقيا اليوم ليست هي إفريقيا الأمس.. ببساطة لأنّ التاريخ تغيّر والإنسان الإفريقي تغيّر وتعلم.. وإفريقيا اليوم هي إفريقيا الشباب المدرك المتعلم.. شباب يعلم ما يجري في العالم وماذا يريد العالم وكيف تدور الأحداث.. شباب واعٍ ومدرك أنّ إفريقيا تعرضت للاستغلال من الغرب وعلى مدار عقود وبشكل بشع وظالم وغير أخلاقي ولا إنساني.. شباب أدرك أنّه من غير المعقول أنّ إفريقيا الغنية والكبيرة والمليئة بالكنوز والثروات والأرض والشمس والأمطار هي دول متخلفة وشعوب فقيرة والأسباب معروفة.
الأفارقة بدؤوا يكتشفون ذواتهم قدراتهم وإمكاناتهم وخيرات قارتهم وما تكتنزه من ثروات أرضاً
وسماءً ومياهاً ويريدون أن يكون المستقبل لهم وليس لمن ينهبهم ويتحكم بأعناقهم وأرزاقهم
من انقلاب النيجر تعلن إفريقيا انتفاضتها ضد الاستغلال ووقف نزيف ونهب الثروات.. ومن النيجر أيضاً تبدأ مسيرة التحرر والانعتاق.. التحرر من ربقة الاستغلال والاستغفال والنهب والتحايل والأنانية الدولية.. من النيجر ومن مالي ومن بوركينا فاسو سيبدأ تاريخ جديد لإفريقيا بعد أن أعلن الشباب عن قارة إفريقيا سيدة حرّة في أرضها وخيراتها.. ضد شتى أنواع الظلم والسيطرة والاستغلال.. من النيجر بدأت مسيرة إفريقيا المتحررة السيدة على أرضها وثرواتها بعيداً عن الهيمنة والاستغلال ونحو أفق التطور والرفاهية والمستقبل بفضل وعي الشباب الإفريقي الجديد والواعد والطموح لمستقبل مغاير وحياة أخرى مليئة بالأمل والعمل والبناء والحضارة.
هذا الانقِلاب في النيجر الذي يحتل العناوين الرئيسية في معظم أنحاء العالم ليس انقلاباً على الديموقراطية كما يحاول أن يروج له الإعلام الغربي حالياً، وإنما هو انقلاب على الجوع والفقر والفساد، ونهب الثّروات، والهيمنة الغربية الفرنسية والأمريكية، ولقد وكانت «أمّ المُفاجآت وأبوها» في هذا الانقلاب هي التفاف الغالبيّة من الشعب النيجري حوله، والاحتفال به كيوم تحرير ونصر وانعتاق من براثن الاستِعمار الغربي، وهذا ليست تخيلات ولا تلفيقاً، وإنما جاءت في برقية واضحة بثتها وكالة الصحافة الفرنسية في تغطية لاحتفال أكثر من 30 ألف من سكان العاصمة نيامي رافعين أعلام بلادهم إلى جانب علمي روسيا والصين في الملعب الرياضي الأضخم في البلاد.
وحسب الوكالة نفسها فإن غالبية أهل النيجر، يُؤمنون بأن هذا النظام الذي تمت الإطاحة به لم يكن ديمقراطياً، بل كان نظاماً مستبداً وفاسداً ودمية في يد فرنسا، إذ فتح أراضي البلاد للقواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية ليتواجد فيها آلاف الجنود الفرنسيين والأمريكيين، والذريعة مكافحة الإرهاب الذي وفر له الغرب الحاضِنة في مِنطقة الساحل الإفريقي والصحراء الكبرى بسِياساته الاستعماريّة ولتبرير وجود قواته في هذه المناطق.
النيجر بعد مالي.. الأفارقة يكتشفون قارتهم
يبدو أن فرنسا تترنح في إفريقيا.. وبدأت تقرأ جيداً ما استجد وكان مفاجئاً في خرائط نفوذها التاريخي في إفريقيا لا سيما لدى مجموعة دول الساحل الخمس «مالي، بوركينا فاسو، تشاد، النيجر، موريتانيا» وتبدو باريس متخبطة في تفسير هذا الفشل بعد أن بدأ الأفارقة يكتشفون قارتهم، ولا شك أن ما حدث في النيجر شكل مفاجأة للغرب عموماً ولفرنسا خصوصاً, حيث انطلق هذا الغضب من عند الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون إذ قام بتوبيخ رؤساء وكالات المخابرات الفرنسية بسبب عدم توقع هذا الانقلاب، وتجلى غضبه أكثر بعد أن تعمق لديه مفهوم خسارة فرنسا المتتالي لنفوذها في افريقيا، قائلا: «النيجر بعد مالي، هذا الأمر صعب جداً».
هذه نهاية «إفريقيا الفرنسية» فما إن ينتهي فصل النيجر حتى يبدأ فصل آخر تماماً
كما كانت النيجر هي الفصل الثالث بعد الانقلابين في مالي وبوركينا فاسو
الرئيس السابق للمخابرات الفرنسية، آلان جولييت، وصف مشهد ما يحدث بالنهاية التاريخية لحقبة إفريقيا الفرنسية «فرانسافريكا» قائلاً: «ما إن ينتهى فصل حتى يبدأ فصل آخر على الفور، متسائلاً، إذا غادرت فرنسا، من الذي سيحل محلها؟.. حقيقة أن روسيا تقوم بتوسيع وجودها الدبلوماسي في إفريقيا وتقوية نفوذها على جميع المستويات تعني الكثير» حتى أصبحت إفريقيا منطقة مواجهة مباشرة بين فرنسا وروسيا منذ عام 2017.. فبعد تبني العقوبات الغربية الأولى ضد روسيا، قررت سلطات الأخيرة التحول إلى حالة هجوم مضاد.
تريد روسيا تطوير نفوذها في إفريقيا وتقليل النفوذ الفرنسي لتقويض موقف فرنسا.. وقد جاءت القمة الروسية – الافريقية مؤخراً في روسيا لتثبت أن مزيداً من البلدان الافريقية تعمل على إعادة التوجه نحو دول ليس لها مطامع استعمارية، وعلى وجه الخصوص، نحو روسيا.
وأكدت القمة الروسية – الإفريقية إمكانية مثل هذا التوجه, بحيث تتوافر جميع المقدمات لتعزيز التنوع الجيوسياسي في القارة، والتي ستختار الشراكة مع موسكو وبكين، وليس مع الدول الغربية.. أما الولايات المتحدة فهي مهتمة بجدية بالنيجر، ليس فقط بسبب وجود مناجم اليورانيوم هناك لكنها بدأت تخشى أن تثير النيجر سلسلة من حركات تمرد مماثلة عبر القارة، وحينها يمكن أن تفقد واشنطن سيطرتها على الدول الإفريقية الأخرى، فهل تكون بداية لنهاية الاستعمار، وهل تدق القارة السمراء المسمار الأخير في نعش الهيمنة الغربية؟
ختام القول: ليس هناك من أحد ضد الديمقراطية، ولكن يجب التفريق دائماً بين الديمقراطية المزيفة والتي تفتح الأبواب للهيمنة الاستعمارية، وتُعزّز الفساد ونهب ثروات البِلاد، وبين الديمقراطية الحقيقيّة التي تنحاز للشّعوب، وتُعزّز المساواة، والتنمية المستدامة، والانحِياز للفُقراء والطّبقة المُعدَمة، وتكرس السيادة والاستقلال.
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. الفرنسي كواجهة احتلالية يتآكل.. والمستعمر بين طردين آسيوي وإفريقي