ملف «تشرين».. «العودة» الأميركية في قمة فيلنيوس الأطلسية.. تعبئة عسكرية لمواجهة العالم الاقتصادي الصاعد
تشرين – مها سلطان:
في اليوم التالي لقمة حلف شمال الأطلسي في فيلنيوس/ ليتوانيا، أمر الرئيس الأميركي جو بايدن بتعبئة 300 ألف من قوات الاحتياط لتعزيز القوات الأميركية المنتشرة في أوروبا في إطار ما يسمى عملية «الوفاء الأطلسي». الهدف المُعلن هو إظهار قوة التحالف الدولي بمواجهة روسيا وعمليتها الخاصة في أوكرانيا.
وحسب وصف ينس ستولتنبرغ الأمين العالم لحلف الأطلسي «ناتو» فهذه التعبئة هي «أكبر خطة دفاعية منذ الحرب الباردة» وفيها أن الـ300 ألف من قوات الاحتياط سيكونون في حالة تأهب عالية مع أحقية اتخاذ قرارات الدفاع والهجوم من قبل قادة الوحدات – في حال وجود تهديد – من دون الرجوع إلى الحلف. وتوزع الخطة مهام الدفاع على بعض دول «ناتو» لحماية حلفاء الجناح الشرقي، حيث ستحمي ألمانيا ليتوانيا، وبريطانيا إستونيا، وكندا لاتفيا، إضافة إلى تعزيز الوحدات المنتشرة بالسلاح الثقيل بما في ذلك الصواريخ وأنظمة المدفعية لتستطيع القتال بقوة، حسب مجلة «بيلد» الألمانية.
هذه التعبئة الأميركية ستقابلها تعبئة أوروبية مماثلة، وإن لم تكن بالحجم نفسه باعتبار أن الأرض أوروبية وليست أميركية، وأن أوروبا هي المُهَددَة وليس أميركا.
الأغلبية ستقرأ التعبئة كرسالة مباشرة/ موحدة لروسيا، تعويضاً عما أخفقت به قمة فيلنيوس لناحية إظهار الوحدة والتوحد خلف الولايات المتحدة وسياساتها التصعيدية ضد روسيا.. الصين طبعاً.
صحيح أن «الوثيقة الإستراتيجية» التي صدرت عن القمة، تعيد التأكيد على مسألة الخطر المزدوج الروسي- الصيني، إلّا أنه على أرض الواقع ليست كل دول «ناتو» موحدة خلف هذه المسألة، وهي في سياساتها مع روسيا والصين لا تتصرف وفقها.. وأكثر من ذلك هي لا تريد أن تكون علاقاتها مع الصين تحديداً أو روسيا، مُغلفة بالعداء والنزاعات. لقد وصل تشابك المصالح الاقتصادية «بل الارتباط الاقتصادي المصيري لأوروبا بالصين وروسيا» إلى حدٍّ لا يمكن معه الفصل أو المخاطرة بتصعيد العداء والنزاعات إلى حدّ شن مواجهة عسكرية مباشرة، الخاسر الوحيد فيها أوروبا وذلك بالنظر إلى أن الصين وروسيا لديهما من الحلفاء العالميين الاقتصاديين ما يكفي للفوز في أي مواجهة، عدا عن كونهما تتزعمان أكبر تكتلين اقتصاديين في العالم «بريكس» و«شانغهاي» اللذين وصلا من القوة لدرجة أن الجميع بات يطلب الانضمام إليهما، مُفضلين الابتعاد عن الولايات المتحدة وأوروبا معاً، وبعض هذا الجميع، محسوب ضمن قوى إقليمية كبرى، وعلى رأس هذا البعض أهم الدول النفطية في العالم.. وأكثرها تحالفاً مع أميركا.
الارتباط الاقتصادي المصيري لأوروبا بكل من الصين وروسيا..
إلى أي حدّ سيُعرقل المخططات الأميركية ويمنع العودة العالمية التي تخطط لها إدارة بايدن؟
تلك الرسالة المباشرة الموحدة لروسيا، وهي رسالة قوامها 300 ألف جندي، هل هي فقط لاستعراض القوة والوحدة، أم إن «ناتو» أراد لروسيا أن تفهم أن المواجهة التي تم تأجيلها في قمة فيلنيوس على خلفية تأجيل انضمام أوكرانيا للناتو، هي مسألة وقت لا أكثر، قبل أن تقع، وأن رفض انضمام أوكرانيا لا يعني أن الغرب يخشى المواجهة مع روسيا؟
رسالة مماثلة وجهتها قمة فيلنيوس للصين عبر استضافة أربعة من زعماء آسيا والمحيط الهادئ وهم رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، ورئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، ورئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، ورئيس وزراء نيوزيلندا كريس هيبكينز.
هذا الحضور وإن كان رسالة خطيرة أخرى للصين، إلّا أنه كان تعبيراً هو الأخطر لناحية ما وصل إليه «ناتو» من انقسام . المراقبون قرؤوا في ذلك أن أميركا تحاول التعويض بجبهات موازية أكثر قرباً من الصين، كما تفعل فيما يخص روسيا وانضمام السويد وفنلندا للناتو. ويرون أن ألمانيا وفرنسا تحديداً ترفضان التخلي عن سياستهما الحذرة تجاه المخططات الأميركية ضد الصين وروسيا، بل وتعارضانها.
ويبدو أن أميركا تمهد لميدان عسكري جديد ضد الصين (في تايوان) مماثلاً لميدان أوكرانيا، وقد قالها ستولتنبرغ صراحة خلال القمة:«ما يحدث في أوكرانيا اليوم يمكن أن يحدث في آسيا غداً».. ولا يخفى على أحد هنا أن المقصود هو تايوان.
واشنطن تسعى إلى إعادة ترتيب ما بعثرته روسيا والصين من أوراق القوة الأميركية حول العالم..
ولأجل ذلك لابدّ من تحضير «ميدان تايواني» للصين يشبه الأوكراني
إذاً.. هل العالم مقبل على مواجهة عسكرية كبرى مع قطبي العالم الجديد الصاعد، روسيا والصين؟
الجواب الذي يكاد يكون محل إجماع هو: نعم
ولكن الولايات المتحدة أذكى وأكثر خبثاً من أن تكون طرفاً مباشراً في هذه المواجهة، وإذا ما كانت تحضّر للصين ميداناً تايوانياً يشبه الميدان الأوكراني، فهذا يعني تكبيل الدولتين، روسيا والصين، بحربي استنزاف، تريد الولايات المتحدة أن تستمرا لأطول زمن ممكن، وبما يمنحها الوقت الكافي لتعيد ترتيب ما بعثرته روسيا والصين من أوراق القوة الأميركية حول العالم.
هل روسيا والصين في صورة المخططات الأميركية؟
الجواب الأكيد: نعم .
ولكن هل لديهما خطط للصد، خصوصاً أن حرب أوكرانيا ينظر إليها على نطاق واسع بأنها «تورط كبير» فرضته أميركا على روسيا، وهي تستطيع فعل المثل بالنسبة للصين وتايوان، إذ يكفي أن توسع الولايات المتحدة دائرة التصعيد أو لنقل الوجود العسكري في محيط تايوان، أو أن تدفع تايوان لبدء شرارة الحرب حتى تجد الصين نفسها في الوضع الروسي ذاته.
مع ذلك لننتظر ونرَ الترجمة العملية لنتائج قمة فيلنيوس، وعلى الأكيد نحن لا نقصد هنا النتائج المعلنة في بيان الوثيقة الإستراتيجية، ولكن ما نقصده هو النتائج التي تخبئها مباحثات الغرف المغلقة، والتي يمكن اعتبار التعبئة آنفة الذكر أول ترجمة لها.
ترتيبات جديدة – أميركية أطلسية- لمنطقتنا بهدف إدامة الوجود والهيمنة..
أميركا ترى أن الأمور لم تخرج عن السيطرة بعد.. ولا يجب أن تخرج
هنا لابدّ من سؤال: ماذا عن منطقتنا، وعن سورية؟
أمس السبت، أي بعد ثلاثة أيام على انتهاء قمة فيلنيوس، أعلنت الولايات المتحدة أنها سترسل المزيد من المقاتلات إلى الخليج، حول مضيق هرمز، بذريعة حماية السفن من إيران، وحسب مسؤول عسكري أميركي فإنّ مقاتلات من نوع «إف 16» سترسل إلى الخليج نهاية الأسبوع الجاري لتعزيز سرب مقاتلات «A-10» الهجومية التي تجري دوريات فوق المنطقة منذ نحو أسبوع.
لكن ذلك لا يعني حرباً مع إيران، بقدر ما يعني العودة الأميركية إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة باعتباره عامل ردع لإيران من دون الاضطرار إلى الحرب معها، وسبق لمسؤولين أميركيين أن صرّحوا بأن الولايات المتحدة تستطيع- وبأسرع مما يعتقده الخصوم والأعداء- إعادة وجودها العسكري في المنطقة كما كان.
بكل الأحوال لا تعتقد أميركا أنها بحاجة إلى «حرب وجود» في المنطقة أقله في المرحلة الحالية، ما زالت ترى أن الأمور لم تخرج بعد عن السيطرة، ولكن هذا الوضع قد يتغير في ظل أن المنطقة مقبلة على تطورات كبرى، حسبما يرى مراقبون.. وقد يكون التركيز في هذه التطورات الكبرى على سورية ومحيطها الإقليمي، إذ يبدو أن المخططات الأميركية ستتركز هنا، وباتجاه إقامة أميركية/أطلسية، طويلة الأمد.
في الوثيقة الإستراتيجية لقمة فيلنيوس هناك ترتيبات تجري مع الأردن خصوصاً لإنشاء مكتب اتصال إقليمي لحلف «ناتو» في العاصمة عمّان، هذا عدا عن ترتيبات أخرى مع كل من العراق وموريتانيا وتونس (ونعيد التذكير هنا أن هذا ما جاء في الوثيقة الإستراتيجية التي تناقلتها الوسائل الإعلامية). مع التأكيد أن الحلفاء سيواصلون الانخراط فيما يسمى «التحالف الدولي لمحاربة داعش» متعهدين بـ «بناء قدراتهم على مواجهة الإرهاب والعمل مع الجهات الدولية الفاعلة في هذا المجال».
البيئة الآمنة هي أساس السيطرة الاقتصادية التي تسعى إليها الصين وروسيا..
وإذا ما كانت أميركا تبني مخططاتها على أساس تدمير هذه البيئة فكيف سيكون الرد الصيني- الروسي؟
ماذا نفهم من ذلك؟
الأهم الذي نفهمه هو أن أميركا قررت إنهاء حالة الانكفاء أو الإكفاء الذي يمكن القول إنها بدأت فعلياً منذ الولاية الثانية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عام 2012 وتعمقت مع الرئيس السابق دونالد ترامب، حتى بداية النصف الثاني من ولاية الرئيس الحالي جو بايدن. قمة «ناتو» في فيلنيوس كانت رسالة أولى. أما كيف سيكون الإنهاء، وتالياً العودة، فهذا ما ستظهره الأيام المقبلة.. ولكن ومن سياق قمة فيلنيوس فهي على الأغلب عودة عسكرية، بالوكالة أو بالأصالة لا فرق..
وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن الأمن والبيئة الآمنة هي أساس السيطرة الاقتصادية التي تسعى إليها كل من الصين وروسيا، أو ما يسمى العالم الاقتصادي الصاعد..
وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن هذه السيطرة مبنية بشكل مطلق على ترابط عالمي كما في «الحزام والطريق» فإنّ العودة الأميركية/ العسكرية، ستقضي على هذه البيئة، ويخطئ من يعتقد أنها غير قادرة على ذلك..
وإذا ما فعلت فإنّ سلسلة الترابط العالمي ستنقطع وستنعكس مشروعات اقتصادية غير مكتملة، أو على الأقل ليست بالجدوى التي تحقق للصين وروسيا الزعامة الاقتصادية العالمية، وبالتالي ما الذي يمكن لهما فعله؟
ربما لا يجوز استباق الأحداث.. لننتظر ونرَ.
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. قمة بصيغة العدوان… «ناتو» يرفع راية الحرب شرقاً