ملف «تشرين».. العمل العربي المشترك وحديث الضرورات والمعوقات.. هل خرجنا من دائرة الفشل والتفشيل إلى دائرة الفعل والتفعيل؟
تشرين – مها سلطان:
أريد لقمة جدة العربية التي انعقدت في السعودية 19 أيار الماضي، أن تفتح رسمياً بابين: المصالحات والتحولات، الأول يشكل مدخلاً رئيساً، بل وحيداً للثاني، وكلا البابين يُراد من فتحهما فتح باب ثالث يتمثل بتفعيل العمل العربي المشترك، وهو الهدف الرئيس والنهائي الذي تريد مؤسسة القمة برئاستها السعودية الحالية تحقيقه، أو على الأقل إرساء دعائمه الأهم، للبناء عليها مستقبلاً، ولكن ليس المستقبل بمداه الطويل، وإنما بمداه الأكثر قصراً إذا ما أمكن ذلك.
أما المصالحات، فلا شك أن قمة جدة فتحت بابها الأوسع، وهي تكتسب أهميتها الكبيرة من أمرين: الأول، تصحيح المسار السياسي العربي الداخلي، أي بين العرب بعضهم بعضاً، والثاني استعادة القرار السياسي العربي باعتباره مفتاح استعادة بقية القرارات، الاقتصادي، الدفاعي، الأمني، الاجتماعي.. الخ.
وأما التحولات، فالمقصود بها إعادة التموضع إقليمياً ودولياً، عبر تحولات سياسية اقتصادية عسكرية على قاعدة المصالح العربية ككتلة واحدة باتجاه عالم يجدد نفسه ضمن تكتلات إقليمية تتحول إلى عابرة للقارات، وصولاً إلى منطقتنا العربية.
ولتحقيق المصالحات والتحولات لا بدّ من تفعيل آليات وأدوات العمل العربي المشترك ووضعها في مسارها الصحيح، المهمة بلا شك ليست سهلة لكنها في الوقت ذاته ليست مستحيلة.. وهناك ما يدعو لبعض التفاؤل، فعندما ترفع قمة جدة هدف تفعيل العمل العربي المشترك فهي لا تفعل ذلك من فراغ، هذا الأمر يعني: امتلاك إرادة القرار والفعل السياسي المستقل، امتلاك القدرة والأدوات والآليات، وضوح الرؤية والمسار، وتحديد الهدف النهائي.
ولنا مثالان مهمان في هذا الإطار: الأول، تفعيل العمل العربي المشترك باتجاه سورية، والثاني الاتفاق السعودي- الإيراني الذي هو أيضاً ناجم عن عمل عربي مشترك.
وللتوضيح.. عندما نتحدث عن قمة جدة وأهدافها، وعلى رأسها العمل العربي المشترك، فهو حديث يتعلق بكل الدول العربية، أي بالإرادة العربية الجامعة في وضع الأهداف وسبل تحقيقها.
عندما رفع العرب في قمة جدة هدف تفعيل العمل العربي المشترك
فهذا لم يأتِ من فراغ وإنما من ثقة تعني القدرة على امتلاك إرادة القرار والفعل المستقل
ربما بات من غير المفيد العودة إلى الماضي، والتندر على عقود من العمل العربي الضائع في متاهات السلبية والاستلاب، كما أنه من غير المجدي إطالة التوقف أمام عشرية الربيع العربي السوداء، حتى وإن كنا لم نخرج كلياً منها بعد.. لننظر إلى مسألة تفعيل العمل العربي المشترك من جوانبها الإيجابية والتي بلا شك تنطلق من كل الكوارث التي خلفها الربيع العربي، والسياسات العربية الكارثية بالمجمل بمستوييها، داخلياً وخارجياً.. لنبدأ من قمة جدة وما بعدها، من «العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا» من «التهديدات التي فيها مخاطر وفيها فرص».. «هذه فرصتنا التاريخية» كما قال الرئيس بشار الأسد في كلمته أمام هذه القمة.. لنبدأ من مسألة أن هناك إرادة وقراراً ومساراً وهدفاً، وأن هناك توافقاً عربياً، ربما لم يسبق له في أي مرحلة أن كان بهذا الحجم والمدى، وبهذا الاستشعار للمخاطر المحدقة، التي تضع الدول العربية على حدٍّ فاصل: نكون أو لا نكون.. وحتى نكون، لا بدّ من تفعيل العمل العربي المشترك.. هذا يعني أن نكون كتلة واحدة موحدة، على أتم الاستعداد والجاهزية.
أيضاً لا ينفع هنا أن نستمر في ربط فشل العمل العربي المشترك بفشل الجامعة العربية كمؤسسة ينضوي تحت سقفها جميع العرب، لا ينفع أن نبقى في حالة جدل بيزنطي حول من يتحمل الفشل.. لا ينفع أن نبقى داخل أحجية بلا حل حول من أين نبدأ العمل، من الجامعة العربية التي قيدت العمل العربي المشترك وقادت إلى فشله، أم من سياسات الدول العربية التي قيدت الجامعة العربية وتحكمت بعملها وقادت في النهاية إلى فشل العمل العربي المشترك.
كل هذا لا ينفع، ولن يقود إلى شيء.. باعتقادنا علينا النظر هنا إلى مسألة واحدة هي الأهم والأجدى، وتتمثل في أنه عندما كان هناك قرار وإرادة لتفعيل قضية عربية، ونقصد هنا سورية، شاهدنا كيف نجح العمل العربي المشترك أياً كان من قاد هذا العمل، ففي النهاية من قاد هذا العمل نجح في تفعيل عمل عربي واحد تجاه هذه القضية، هذا النجاح هو المهم، ومنه يجب أن ننطلق، وإذا ما نجح هذا العمل في سورية فهو يستطيع النجاح في أي دولة عربية أخرى، خصوصاً أن سورية والحرب الإرهابية عليها، هي الأزمة الأخطر التي تهدد الجميع وليس سورية فقط.
وعليه لنتخلى عن ذلك السؤال: كيف يمكن تفعيل العمل العربي المشترك؟ هذا العمل أصبح مُفعّلاً بدءاً من سورية، وجاءت قمة جدة العربية لتكرسه ولتؤكد نجاحه في أولى محطاته.. العمل المطلوب اليوم هو توسيع دائرة التفعيل باتجاه دول عربية أخرى من جهة، وباتجاه دول في الإقليم من جهة ثانية.
منطقتنا اليوم على حدٍّ فاصل: نكون أو لا نكون.. وحتى نكون لا بدّ من تفعيل العمل العربي المشترك.. أن نكون كتلة واحدة موحدة على أتم الاستعداد والجاهزية
لنستعض عن ذلك السؤال بآخر: ماذا يمكن أن يحقق لنا توسيع دائرة تفعيل العمل العربي المشترك؟
لا بدّ من التوضيح هنا أن العمل العربي المشترك لا ينحصر في الجوانب السياسية فقط بل يتعداها إلى ما هو أوسع وأهم في الاقتصاد والأمن والدفاع والثقافة والمجتمع، لدينا التكامل الاقتصادي العربي، لدينا الأمن القومي، الغذائي،المائي،الزراعي،الصناعي، التجاري العربي، لدينا معاهدة الدفاع العربي المشترك، والأمر نفسه في الجوانب الثقافية والمجتمعية.
حتى الأمس القريب جداً كانت السياسة هي من يقود الاقتصاد في المنطقة العربية، ومجمل الإقليم، اليوم انقلبت المعادلة وبات الاقتصاد هو من يقود السياسات، ولأن الحال بات على هذا النحو كان لا بدّ من تطويع السياسات لخلق البيئة الميدانية الأمنية للاستثمارات الاقتصادية، خصوصاً الإستراتيجية منها، والعمل على توطين هذه الاستثمارات ضماناً لتنمية مستدامة، وتحقيقاً لقوة اقتصادية باتت هي الهدف في عالم جديد يتشكل، سمته الأساسية الاقتصاد والتكتلات الاقتصادية.
لكن، ولخصوصية منطقتنا، وفي مسألة العمل العربي المشترك تحديداً، لا بدّ أن تسير السياسة والاقتصاد جنباً إلى جنب، على الأقل في المرحلة الأولى، على ألّا تطول في الزمن والعمل.
إذا انطلقنا من سورية فإنّ العمل العربي المشترك دخل فعلياً دائرة التفعيل..
والمطلوب اليوم توسيع الدائرة نحو دول عربية أخرى، ونحو الإقليم
عملياً تقدم العمل العربي على ساحة الفعل السياسي منذ عام 2016 بجهود لدولة الإمارات، وفي عام 2020 حقق قفزة مهمة بانضمام السعودية، وإذا ما أخذنا بالحسبان أن دولاً عربية أخرى- على رأسها الجزائر- كانت تسير في الاتجاه نفسه، سنجد أنه كان لدينا عمل عربي متقدم على المستوى السياسي، علماً أنه لم يكن خافياً أن الهدف البعيد، هو هدف اقتصادي.
القمة العربية الماضية التي انعقدت في الجزائر في تشرين الثاني 2022 شكلت بدورها نقلة نوعية، وطرحت إلى العلن مسألة العمل العربي المشترك كقضية تحتاج إلى بحث ونقاش وإعادة نظر في آلياتها وأدواتها.
توجيه العمل العربي المشترك نحو تبريد القضايا الساخنة يعني أن
المنطقة العربية باتت على الطريق الصحيح وأن الآفاق واعدة ومبشرة
بعد هذه القمة تقدم العمل العربي المشترك خطوات أوسع، وبصورة أكثر تركيزاً على سورية.
المحك الحقيقي كان في 6 شباط الماضي عندما ضرب زلزال مدمر سورية، كارثة الزلزال أظهرت- لأول مرة ربما- ما الذي يمكن للعمل العربي المشترك أن يحققه إذا ما وضع في مساراته الصحيحة.
في قمة جدة العربية كان العنوان الأبرز، عودة العرب إلى بعضهم بعضاً، على قاعدة الانطلاق بالعمل العربي المشترك باتجاه مرحلة جديدة، وبما يوسع آفاق تفعيل العمل العربي المشترك وتوجيهه نحو تبريد القضايا الساخنة.. وإذا ما سجل نجاحات أخرى فهذا يعني أن المنطقة العربية باتت على الطريق الصحيح.. وأن الآفاق واعدة ومبشرة.
اقرأ أيضاً: