دفاعاً عن السياسة والمعنى. كيف نقرأ الأحداث السياسية إقليمياً ودولياً
أحاول تسليط الضوء على مهزلة التحليل السياسوي، في حقل هو بالأحرى سيميو-بوليتيكي، وذلك بقصد انتزاع السياسة من هذا الخطاب الاستهلاكي وإعادتها إلى حضنها العلمي. مظاهر وتجليات هذا الانحطاط بالسياسة كثيرة، هناك غياب المقاربة وتضخّم النزعة المعيارية وحكم القيمة الذي تقرّره الفاشيستية الميديولوجية، وتنقله جيوش الاحتياط في غياب برنامج حقيقي لملامسة الوعي بالقدر المنطقي المتاح من الإقناع.
إن مفارقات الحقل الدلالي للجغرافيا السياسية لا حدود له، وقد أفسدته اللّغة التي تنكّرت لأبسط قواعد التداولية، لأنّ معضلة التحليل السياسي تكمن في ضمور المعنى، انتهاك السياق، بكل بساطة؛ غياب “المواءمة” بمفهوم غريماس. ثمّة سوق مفتوح على المقصود وغير المقصود من دون حدّ أدنى من الاستلزام التخاطبي. يحدث ذلك، منذ فصلنا السياسة عن العلم، وباتت وظيفة لغوانية.
ينعكس هذا الوضع المزري على التصورات، ويخترق المشاعر، ويتخلّق من داخل هذه الفوضى كائن قلق، هذا ناهيك بخطورة المخرجات التداولية لخطاب سياسي أجوف ومستحقاته من أفعال الكلام. وجب التمييز بين علم السياسة والفعل السياسي. ما يحدث اليوم هو امتداد للحرب في اللغة، بل حتى فنّ التعبوية يتراجع، لأنّ أسوأ ما يعترض التعبوية، هو التكرار والملل والجمود وغياب الابتكار.
القوى الإقليمية اليوم أحجار مكسورة على رقعة شطرنج بالية، والتنازع اليوم واضح زاده غموضاً هذا التشويش في عملية تخاطبية فاقدة لأرضية مشتركة وتعاقد مسبق على نظام سَنَني، يخرجنا من الالتباس ويوقفنا على قدر من المعنى.
يتعيّن على المثقّف أن يخترق هذا الالتباس، ويقرأ السياسة من خارج البيانات، ويمسك بالدلالة خارج لعبة الإستلواغ السياسي، ونقصد بذلك لغة فاقدة للبلاغة، والمثقلة بالاستلزامات الخادعة، أي ما ينتهي إلى حتمية الفشل التداولي.
قراءة الحدث خارج ضغط الخطاب الميديولوجي الاستهلاكي قضية ملحّة، وبأنّ السياسة حقل لعلم السياسة، بل وإن الخطاب السياسي هو موضوع يستدعي فحصاً سيميولوجياً. إنّنا لا نستهلك السياسة كما يجب، بل إن السياسة تستهلكنا، هي من يحولنا إلى مستند لغوايتها، وهذا من شأنه أن يسهم في تعزيز كائن يُعاد تشكيله أنطولوجياً داخل مقتضيات عنف السياسوية تداوليّاً، إنّه بالفعل تجلٍّ لنسيان الوجود.
كيف يا ترى يمكن فهم حقيقة الصراع، ومفهوم الحرب، ورهانات السياسة وحدودها في عالم يقع تحت السيطرة الشمولية ويُدار بالتّفاهة؟ ماذا عن مخاض إقليم ما زال يخلط بين اللّعب في دلالته السياسية والثّأر بمفهومه الـ ما قبل-سياسي؟
الصراع مستمر، لكنّ ثمة شيئاً أساسياً له علاقة بالحق في راحة بيولوجية، باستراحة مقاتل، ويبدو أنّ العالم اليوم فقد ثقافة الفرسان، وأصبح أكثر وفاءً لحروب الغوغاء. هذا القدر من الراحة، هو راحة جيوسياسية، تتنفس فيها الجغرافيا السياسية، ويُعاد تشكيل مراكز التأثير والقوة فيها وبها.
أريد من خلال هذا أن أذكّر الكثيرين، ولا سيما الذين يقرؤون الوقائع خارج منطقها الطوبولوجي، أي إعادة تشكل العالم بأشكال مختلفة إذا ما انطوت على ثقب متشابه كما في حدسية بوانكاريه. بمعنى آخر؛ إنّ الجغرافيا السياسية قالت كلمتها وانتهت، ونحن إزاء تشكيل الواقع بناء على ما ينطوي عليه من أشكال، بعضها لا يمكن أن يكون غير ما تحدد سلفاً. في هذا السياق ، فإنّ الحدسية نفسها لو طبقناها على الجغرافيا السياسية، وعلى الوحدات الإقليمية والدولية، فسنجد أنّ دولاً وجدت منذ الأزل السياسي كدول عظمى، وثمة دول أخرى، لا يمكن أن تعيد تشكيل نفسها خارج ما يتيحه شكلها الأساسي. إنّ أي متغير يطرأ خارج هذه الوضعية لن يغير شيئاً، ضعف الطالب والمطلوب.
دعني أشرح أكثر: إنّ الجغرافيا السياسية تتحوّل، وإنّ موازين القوة لا يمكن تغييرها بالتمني، هناك توازن تفرضه الصيرورة الموضوعية لحساب القوى، وإنّه لا يمكننا تجاهل الكثافة. بهذا المعنى، في لحظات جيوسياسية حاسمة، تتغير موازين القوة، ويصبح من غير المنطقي أن نتحدّث بلغة العواطف، كالسؤال: لماذا عجز الغرب عن إيقاف روسيا من إكمال زحفها داخل أوكرانيا؟ إنّ الأمر يتعلّق بتوازن القوى ونفاذها. وجب القول، إنّ الإقليم يمرّ من مرحلة تعديل في موازين القوى، وإنّ الترنح في سبيل الإبقاء على الوضعية القديمة لم يعد ممكناً، وأعتقد أنّ لا طريق اليوم غير استعجال فكّ النزاع. لن تستطيع أوكرانيا أن تفلت من روسيا، وهذا له تداعيات على أوراسيا، ولا أحد يملك أن ينقذها من روسيا، كما أنّ لا أحد يستطيع أن يوقف إيران في تعزيز قدراتها الإقليمية، وبأنّ كلّ وسائل الدّعاية وأساليب القوة الناعمة لن تغير من مسار التحول الجديد.
هناك دول ضعيفة تراهن على الغرب، والغرب لم يتخلَّ عنها لأنّه أنانيّ فقط، في محاولة للتفسير الأخلاقوي للسياسة، بل لأنّه فقد القدرة الشمولية على التحكم الجيوستراتيجي، وبأنّ مفهوم الحماية سيشهد تغييراً في قواعده. هناك واقع موضوعي تفرضه الوظيفة العميقة لبنية العلاقات الدولية وبالتالي الإقليمية. لا شيء فاقداً للتاريخ يستطيع أن يبقى، لأنّه لا يملك فرصة التهدئة، بل سيجد نفسه مترنّحاً فوق رمال متحركة. لا يمكن تجاهل الجغرافيا السياسية والتاريخ السياسي، إنّ الكيانات التي تفتقد التاريخ ، وتحاول تداركه بالأساطير أو التأريخ بالمغالطة، ستجد نفسها في مواجهة هذا الاستحقاق. حبل الكذب في السياسة قصير، لأنّ الحوادث المفاجئة تقطعه. لقد بذل العرب الكثير من الإمكانات وهدروا الكثير من الوقت للإساءة إلى بعضهم والتهوين من هوياتهم التي عززها الأثر السوسيو-ثقافي لسايكس بيكو، فوجدوا أنفسهم في نهاية المطاف كلّهم ملعونون بالتناوب، لأنّهم تنكّروا للسُّلالة الواحدة ولعنوا أنفسهم وتاريخهم وتمادوا في عصبيتهم، وتوهّموا أن صناعة الإهانة شطارة مُنتِجة، بينما جميعهم مُهانون في عصر وصفه برتراند بادي يوماً بزمن المُهانين، ووصفه مهدي المنجرة من قبل بأنّه عصر الإهانة، فماذا حصد العرب في ردّتهم الأعرابية من تقاسم الإهانة سوى الوبال؟ لكن لا شيء يعني هنا التشاؤم من المستقبل، هناك آفاق مفتوحة لتغيير السياسات، وتدارك الزمن وتصحيح الأخطاء، يتطلّب ذلك قدراً كبيراً من الشجاعة السياسية والاعتراف.
إقليمياً لا يوجد بديل عن التفاوض مع روسيا ومع إيران- أمّا الصين فهي ماضية في صمتها المرعب- حيث التفاوض معهما بات حاجة لاستقرار النظام العالمي، وهذا يقتضي الاعتراف والتنازل وإعادة الاعتبار لحوار إقليمي ودولي جاد لا بديل عنه. وأعتقد أنّ بعضاً من هذا الشعور بدأ ينمو ولو بشكل بطيء، لا شيء هنا مضموناً، والزمن الجيوستراتيجي لا يسمح بمزيد من التّلكّؤ، لا بدّ من تدبير هذا الزمن وامتلاك قدرة الفعل المناسب في الزمن المناسب. إنّ أيّ تصعيد اليوم في بؤر النزاع ضدّ ما يعززه منطق الأشياء، هو انتحار جيوسياسي. لا يتحدد مصير النظام الإقليمي والدولي بالتمنيات، بل بالصراع. وليس هذا هو أوّل شكل من الصراع سيعرفه العالم، كما أنّ النظام الدولي لا يمكن أن يخضع للقاعدة التقليدية: ليس في الإمكان أفضل مما كان. الذين ينتظرون انهيار روسيا وتراجع الصين وتغير إيران، هم لا يقرؤون الحاضر جيداً ولا يستشرفون المستقبل بطريقة موضوعية و واقعية، فالجغرافيا السياسية هي الدّالة الرئيسة في هذا الحقل الصراعي الكبير. لا يمكن تحقق السلام الإقليمي والدّولي بغريزة الثّأر، بل بتشخيص العناصر الضرورية لتأمين طريق سيّار نحو مستقبل ممكن. إنّ العناد آفة السياسة، وإنّ إدارة الأزمة بالتّمنّي وافتعال مزيد من الأزمات، واختراع مزيد من الأعداء، هي إدارة قديمة لا يتحمّلها الكون السياسي الحديث والقادم. لكل لعبة زمن محدد تنتهي عنده، ولقد انتهت لعبة الأزمنة القديمة، ويبدو أنّ المرحلة القادمة، هي لصالح من يخوضون معارك دفاعية ويقاومون العدوان.
الالتفاف على هذه الحقيقة ليس ربحاً للوقت، فأي محاولة لربح الوقت ستكون على حساب المحاور الأضعف. مفهوم القوة هنا له دلالة معقدة، ولا يمكن أن تقرأ مؤشرات القوة في الحسابات والبيانات المضلّلة. تستطيع أن تدرك مفارقات القوة وتجلياتها في أمثلة كثيرة، ما يجعلها مفهوماً علائقياً وليس معطى، فللقوة عناصر خفية وظاهرة، وغالباً ما يكون الشكل الظاهري مضلّلاً.
للسياسة مفارقات نابعة من ضمور العناصر الفاعلة في مساراتها، ففي المشهد العربي، عشنا عُشرية كاملة من التآمر العربي-العربي، وهي سياسة كانت لها جذور قديمة لكنها تطورت بشكل خطير في السنوات الأخيرة. مفارقات بين الشعارات والسياسات العميقة، تجاهل الميثاق العربي، لكن كل ذلك انتهى إلى وضعية حرجة. ماذا يا ترى أعدّ العرب من برامج لاحتواء التحولات القادمة؟ أمام العرب فرصة أن يلتئموا في دورة نقاش مفتوح مبني على حسن النيات وتغيير السياسات لصالح اتحاد إقليمي واسع وشجاع. فمعارك الحيتان الضخمة في كون من العلاقات الدولية قادمة، و تقتضي تكتّل مصالح، لكن هل هناك تفكير مشترك في مصالح عربية، هل سيدخل العرب في النظام العالمي القادم بالعقل السياسي القديم، هل سيدخلون العالم القادم مفككين متنابذين، هل سيدخلون معارك السمك سرادين أم قروشاً ؟ ليس للقوة والنفوذ معنى نهائي صلب، بل هو علاقة تستطيع المقاومة في لبنان مثلاً، تحقيق الردع مع الاحتلال، وسلبه امتياز المبادرة في الحرب، لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن تقويض الفساد في الدّاخل، مع إنّها تملك مساحة واسعة في أي محاصصة أو استحقاق، هل هذا يعني أن الفساد أقوى من الاحتلال؟ المسألة لها علاقة بأرضية الصراع، أحياناً تكون الأرضية غير قابلة لإدارة معركة حاسمة، كما لو كان الوسط زلقاً، أو الصراع فوق رمال متحركة.
ويبدو لي أنّ لبنان هو رمال متحركة، سيكون فيها المبادر بالحرب هو أوّل ضحاياها.
لا تتحدد مخرجات السياسة الإقليمية في خطاب فاقد للمواءمة كما قلنا، وتبدو الساحة العربية اليوم مجالاً لهذا النوع من التخاطب، حيث غالباً ما تكون النتيجة هي عدم توقّع الأحداث، ولكي نخوض في مقاربة استشرافية، هذا يتطلّب تعدد زوايا القراءة، وإعادة السياسة إلى العلم.
في الحرب الأوكرانية، يستعيد الالتباس عنفوانه مرة أخرى، يتوقع أحدهم أن بوتين سيلجأ إلى السلاح النووي حين يشعر بالهزيمة، ولكن القادة العسكريين سيمنعونه. هذا سيناريو أقرب إلى فيلم كارتون، أو الحرب منظور إليها بعقلية بيكسو والعمّ دونالد. هناك من جهة أخرى من يلوّح بحرب عالمية بالمعايير التقليدية للحرب. يمكن أن نعيش حرباً عالمية كما نعيشها اليوم، لكن شريطة ألّا تكون بالشروط التقليدية للحرب، أي إنها لن تكون حرباً نووية، ولا حتى كلاسيكية مباشرة، بل هي حرب عالمية بالوكالة.
العالم اليوم أجبن من أن يفكر في حرب عالمية جديدة، بالمنسوب نفسه من عنف التوتاليتارية النازية والفاشيست، فحتى الإمبريالية هي أعجز عن تكرار التجربة. لكن متابعة الكرّ والفر في هذا المنزلق الجيوستراتيجي تدخل في مخرجات دورة الإنسان اللّعبي(Homo Ludens) عند هويزينجا، حيث اللعب ينتج النّظام. لقد كبح السلاح النووي جماح عصر الفرسان، وهو عصر مثير، وأنبنت قيمه على المصارعة ونُبل الشجاعة.
التحوّلات اليوم أصابت أطراف العالم، وتعصف بالهارتلاند نفسه، وتجعل فنّ اللّعب بالمعنى إيّاه، أساساً لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، بمعنى آخر؛ علينا الإقرار بناء على قواعد اللعب المذكورة، أنّ اللعب أقدم من الجغرافيا السياسية، فلئن كانت الحيوانات سبقتنا للعب، فهذا يؤكّد أنّ اللّعب هو من يحدد مصير السياسة الدولية نفسها. هناك مقاومات بقدر ما هناك صراع، اليوم أصبح الغرب يقاوم حفاظاً على امتيازاته ومركزية السيطرة، لن يستسلم لقواعد اللعب الجديدة بسهولة، ولكن كلّ شيء متوقّع.
لم تعد أفريقيا قارة على هامش الكون الحديث، سُلة الرقيق في ذروة الميركونتيلية الغربية، لم تعد آسيا مرتعاً للفقر، أو عالم الأقصى الغرائبي، ففي مقابل تطلع الأمم إلى احتلال مواقع متقدمة، هناك تراجع وانشطار أوروبي ما زال في بداياته، وهناك إعادة تشكيل طوبولوجي للقوى التقليدية، عودة إلى الصورة القديمة، حيث “غُلبت الروم”. هنا وجب التوقف عند تعدد مستويات المعنى، حيث واحدة منها أنّ انغلاب الروم ممكن في المستقبل كما أمكنه الوقوع في التّاريخ، وذلك بناء على قاعدة أنّ أوضح دليل على الإمكان هو الوقوع.
الساعة الجيوستراتيجية تؤشر على بعد زمن انهيار الغرب بالمعنى النهائي، غير أنّ تشكيلاً جديداً للعالم، سيحضر فيه الغرب بمكاسبه الثقافية، لكنه حضور لا يتحدد به مصير عالم متعدد الثقافات والمصالح. سيكون مصير أوروباً، تماماً كاليونان، مجد قديم، وحاضر فاقد للتأثير.
ماذا يعني انهيار الإمبراطوريات؟
إنه في نهاية المطاف يعني التحول إلى دولة عادية، دولة كما لوّح هينتنغتون، منشغلة داخل حدودها الطبيعية.
إنّ السياسة تعيش منعطفاً خطيراً في الإقليم، وهي كفعل لا تختلف عن الوعي السائد بوقائعها، تزيدها التباساً، الوسائط التي تعمل بالقواعد نفسها للتحليل السياسي أو فهم السياسة. الغالب في المشهد هو التهويل. إنّني أتأمّل خطاباً سياسويّاً أشبه ما يكون بحالة استثمار في حقل فقد سلطة الرقابة. ماذا يعني أن تتكرر خدعة مُحلل مغمور، بأن ما هو بصدده آت من مصادر موثوقة أو خاصّة؟ ومع ذلك ينسى أنّه يتوجّه بخطابه لنخبة عالمة وليس إلى العوام، وتتكرر هذه “الغاغات” حدّ التّفاهة، حيث يصبح التحليل ضرباً من الاستهلاك، وأنّ المقصود لم يعد هو رصد الواقع، بقدر ما بات قصداً خفيّاً ذا أبعاد سوسيو-استهلاكية في مجتمع التخاطب اليومي.
علم السياسة ليس تدوير زوايا السياسة بالمفاهيم والأدوات التي يتيحها علم السياسة بالتساوي لكل المهتمين بحقل هو شديد الخطورة، من حيث هيمنته على الحياة العامة، بل هو حدس الوقائع، عبر المقارنات الذكية، والربط المحترف بين الأحداث في سياقاتها، إنه كما ذكرت، هو علم دلالي، يجب النظر إليه كحقل سيميولوجي بامتياز.
كاتب من المغرب