العالم في مخاض والإقليم مترنّح

العالم كالإقليم يمرّ من مرحلة إلى أخرى، وهذا المرور ليس مرور الكرام، بل سيعكس مفارقات عجيبة، ويستعيد أبعد أشكال التناقضات الممكنة استعداداً لمرحلة جديدة، لا يصحّ فيها إلاّ الصحيح.
العالم اليوم يتحكّم فيه الكبار، ويطمح فيه آخرون للترقي في سلّم الوظيفة الدولية، هو سباق محموم.
وهناك من لا يفكرون في المستقبل، ولكنهم سيكونون عسساً في نظام عالم جديد، وحتى هذه الوظائف لا تتحدد الآن، بل ستكشف عنها مخرجات الصراع القادم.
فالسياسة وحدها اليوم لا تحدد شكل المصير، بل ما يحدده هو الوضعية الإقتصادية وقوّة الإنتاج والبدائل الممكنة.
قد يبدو الغاز اليوم في هذا المنعطف مكسباً مهمّاً، لكنّ هذا النوع من الطاقة ليس فقط معرضاً للجفاف والانقراض، بل ثمة بدائل تلوح في الأفق، وتعدّ لها بنيات تحتية لائقة.
عالم الغد هو عالم بمعيار نقدي مختلف، بطاقة مختلفة، بنمط من التفكير مختلف، سنقرأ نظامنا العالمي هذا يوماً كجزء من ذاكرة منكوبة وضعيفة.
دوليّاً، تبدو الحرب في أوكرانيا أبعد مدى من تقدير سياسات محدودة الأثر، هي معركة كسر العظم بين القوتين التي لا زالت كلّ منهما تستعيد هواجس الحرب الباردة التي تأجل تفجيرها، حيث خضع العالم لقواعد اشتباك عميقة خلال سقوط الاتحاد السوفييتي، فما هو متوقع من هذه الحرب له صلة بطبيعة النظام العالمي القادم.
ولا زال العالم يعيش على إيقاع نزاعات مزمنة، وهي نزاعات تداخلت مع أطماع إمبريالية كبرى، وتحوّلت من نزاعات إقليمية إلى محددات لقواعد اشتباك دولية. وتأتي فلسطين المحتلة في قائمة أقدم المستعمرات المحرجة للنظام العالمي، والقضية المزمنة التي لن يكون للعرب أي منجى من آثارها، لأنّ التملّص من قضية إقليمية بهذا الحجم ليس خياراً، وحيث فشل النظام الدولي في إيجاد حلّ لها، لأنّها أصلاً لا حلّ لها، من حيث هي إحلال وليست احتلالاً، بعد حوادث التهجير القسري والنزوح الكبير، وتنامي المستوطنات، وتجاهل حقّ العودة في كلّ جولات التسويات التي باتت شكلاً من التصفيات. وفي مثل هذه الحالة لا ينتظر أن تخمد هذه المنطقة ما دام هناك تجدد بيولوجي وثقافي لفكرة التحرر والكفاح.
ففلسطين حالة استثنائية في عنف الاحتلال، وتحررها سيكون حالة استثنائية في صلابة الكفاح، وهذا يعني أنّ القضية تتجاوز ممانعة الإقليم في ظلّ نظام عربي متآكل وضعيف وتناقضي، بل هي قضية تحرر عالمي، ستكون واحدة من نتائج ومخرجات نظام عالمي جديد، ستطرح فيه هذه القضية بإلحاح لا تفيد معه كلّ محاولات وسياسة تصفية هذه القضية، لأنّها تسكن جينات شعب يعبّر باستمرار -كما فعلت شعوب العالم كله في التاريخ كلّه- عن رفضه للاحتلال والعدوان. هذه القضية هي مؤشّر أساسي، ومحدد كبير لمصير ومستقبل السلم والاستقرار والتنمية في الإقليم.
تراجعت فكرة التضامن العربي ليس بسبب هزيمة العرب، فالعرب إن شاؤوا حاربوا الديناصورات، حين يتعلّق الأمر بمصالحهم الآنية، لكن الفجوة اليوم هي بين هذه المصالح، وسقوط العرب في سياسات الكيدية التي سمحت باختراقهم وتعزيز ضعفهم وتعميق نزاعاتهم. إنّ الميثاق العربي الذي لا زال دستوراً مطويّاً داخل جامعة الدول العربية، هو ذاكرة أمّة أضاعت مجدها، منذ اعتبرت أنّ أمنها القطري في تناقض مع أمنها القومي، ومنذ قلّصت من مساحة أعماقها الإستراتيجية، ومنذ تراجعت قيمة حسن الجوار العربي-العربي، ومنذ ظنّ بعضهم أنّهم أمم عظمى تستطيع أن تقرّر في السياسة الدولية من دون استيعاب تناقضات المجتمع الدولي.
في العلاقات الدولية تتجلى لعبة الدومينو، وكل في موقعه في رقعة تحدد بنية ومصير اللّعبة السياسية الدولية. السياسة التي لا تتجاوز الأنف في تقدير الأعماق الجيوسياسية، وحساب احتمالات المصير، هي سياسات لا مستقبل لها.
تقتضي لعبة الدومينو النظر في كلّ اتجاه، وعدم استصغار التموضعات بما فيها تلك التي تبدو اعتباطية. إنّ العالم يغلي بالصراع، وبأنّ شراء فروة الدّببة قبل اصطيادها كشراء السمك داخل البحر، تقدير خاطئ في السياسة الدولية.
مشكلات الإقليم لها مخرجات موصولة بمخرجات الأزمة العالمية، وبأنّ الرهان على الخرائط الممزقة للنظام العالمي القديم، يزيد الأمر تعقيداً.
فعالم الغد هو تحوّل في قواعد الاشتباك الدولية، وفي أنماط الإنتاج والتوزيع، عالم تتفكّك معه كلّ مخططات العالم القديم، وحتى مفهوم القوة سيعرف تحوّلاً في المعنى والأنماط.
فما يحضره العالم الذي لم يكشف بعد عن كل أوراقه، يؤكد بأنّ ما يبدو من فقاعات المرحلة الانتقالية، لا يمثّل إلاّ الظاهر، بينما التحولات القادمة ستكشف عن بدائل أخرى في الطاقة والنظام النقدي وشكل الحروب.

ماذا عسى أن تفعل الدول الضعيفة، لا سيما في الإقليم العربي والعالم الثالث، أمام تحدّيات عالم الغد؟ أو بالأحرى كيف تستطيع هذه الدول أن تنجوا من أن تكون أضحية عالم الغد؟ من كان يعتبر العالم مبرّة خيرية، فهو مخطئ لا محالة، فعالم الغد هو عالم الإرادات الصلبة، والسياسات الكبرى، عالم مستوعب لتناقضات الأحياز والأقاليم، والاختيارات الذّكية، والمقاربة الشمولية.
لن يكون عالم الغد كما صورتها أحلامنا، وليس بالضرورة أن يكون تنزيلاً لملامح أيديولوجياتنا، بل قد يصدمنا بمخرجات لم تكن حتى جزء من خيالنا، ذلك لأنّنا لطالما حاولنا جعل التاريخ تطبيقاً لخيالنا وتوقعنا، فعالم المستقبل يحمل أكثر مما نتوقّع.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار