لم أتأثر 

كانت متعةً كبيرة تلك اللقاءات الإذاعية مع روائيين وكتاب قصة، ما يلبثون أن يجعلوا الأثير حاملاً لتجارب إنسانية فيها روح أزمنة تأخذ بألباب المستمعين!

هل كانت الأسئلة واحدة لكل الضيوف؟ قطعاً لا! كل باقة أسئلة كانت تنْسُل من حياة الضيف خيوطاً تشبهها وتشبه إبداعه، ولو تشابه اثنان منهم تشابهاً مهما كان يسيراً لفقد خصوصيته وترسيمه أديباً في بلاط الأدب… وهذا الاختلاف كان يترك علامات فارقة في اللوحة الشاملة التي تبقى وراء الضيف حين يغادر “الاستديو”، ومن تلك العلامات قولُ روائيٍّ سألته عن قراءاته في زمن شبابه فعاجلني بأسماء روائيين عرفتهم الثقافة الإنسانية أعلاماً رفعوا من شأن لغات شعوبهم، ثم ما لبث أن انفعل بقوة: قرأت رواياتهم، لكنني لم “أتأثر” بهم! وبقيت هذه الجملة في خاطري! ماذا يعني أن نقترب من أوار نار فتننا دفؤها أو لونها في غابة أو على مطلِّ جبل أو وهي ترسلُ رسائل على القمم، ثم نقول إننا لم نتأثر بها؟ وما معنى التأثر؟ هل هو الحروق؟ الدخان الخانق؟ ألا تترك النار أثراً في الذاكرة، نستحضره حين مشاهدة جمرٍ أو لهب شمعة؟ رحت أحلل هذه الجملة في خلفية الوعي وأنا أواصل الحوار! لماذا تبرأ الكاتب من تأثير الروائيين الكبار؟ لأنه يريد أن يضع نفسه بينهم وهو “نظيف” من روائح الأمكنة التي أقاموا فيها؟ وهل يكون التأثر، من وجهة نظره، السرقة الحرفية من النصوص والأفكار، رغم أن هذا يحصل، لكن بأناقة وروية وفنٍّ مستقل يسمونه “التناصّ”، وما الضَّير في أن يقول كاتب: لقد رقّت لغتي لأنني قرأت مؤلفات “جبران خليل جبران”؟ أو أن يقول آخر: تعلمت اختزال الكلام من “أرنست همنغواي”؟ إذ مهما تفرد الكاتب فهو ابن “بيئته” ويكاد “نصُّه” يُفصح عن كل مخبوء في ثقافته وتاريخ قومه كما مع روائيي اليابان أو كتاب “الرواية السحرية” في أمريكا اللاتينية، الذي أرجع إليهم الألماني “باتريك زوسكيند” أسباب تأليفه لرواية “العطر”، وقال إنه أراد أن يكتب ما يضاهي كل ما طرحته الموجة السحرية التي تقدمت الرواية العالمية في عصرها، وقد فعل بحق، لأن النقاد توقفوا عندها طويلاً بينما عجز الفن السينمائي عن نقلها إلى منجزاته رغم كل ما وفّر لها من أموال وفنانين ودعاية وعروض ومهرجانات!

التأثر حالة قسرية تهيمن علينا كظواهر الطبيعة، إذ لا أحد يعيش خارج “الضغط الجوي” لكنه يستطيع ضبط خطاه واختيار الآلة التي يعزف عليها!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار