الكحل.. الوشاية عن فتنة المآقي
تشرين- حنان علي:
لعلّ أولّ من صنع الكحل، ساءه الشجن في العينينِ، فابتغى ردّ حِداد المآقي لجفنيها، أو رام مواساتها بلمسةِ مرود.. لعلّه “أمام تحولات الكحل في العينين طفل ضائع وسط الزحام” مثله مثل قباني أو أن عينيها المكحّلة بلا كحل حثته لـسؤال “الظبيَّاتِ عن ذاك الصنيعِ” كما فعل الرافعي. أو ربما أراد دسّ واشٍ للتحقق؛ هل بالفعل “أعذب العيون وأكذبها عيون الجميلات”؟.
منذ العصر البرونزي راقدٌ فوق الرموش، تاريخ طويل عبر العصور نثر ظلال العيون مكرساً طقوس الجمال والممارسات الثقافية الأخاذة.، الكحل (كاجال أو سورما) أول ما خطّ عيون المصريين القدماء على جدران المعابد والمقابر، معلناً أن الكحل استخدم لأول مرة في مصر القديمة منذ عام 4000 قبل الميلاد، ليس فقط لخصائصه التجميلية فحسب، بل لفوائده الوقائية والطبية.. ويذكر أن حتشبسوت الملكة المصرية القديمة في الأسرة الثامنة عشرة كانت تأمر بطحن اللبان المتفحم لتحويله إلى كحل يخطّ الكحل العيون بمظهرٍ مثيرٍ وجذاب، مع ما يحمله من ميزات وقائية وسحرية، تطرد الأرواح الشريرة.
بالرغم من أن الكحل أقدم مواد التجميل في آثار الحضارات، بيد أنه كان يوضع على أعين الرضع والصغار لحمايتها من الأمراض وأشعة الشمس الحارقة، وقد استخدمه الرجال والنساء على حدٍّ سواء. حيث شاع في حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، وكان يعدّ رمزًا للثروة والمكانة، ويعبأ داخل مكاحل متقنة الصنع من الذهب والفضة. كذلك حاله في ثقافات جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما في الهند، فالكحل يُصنّع تقليديًا من السخام الممزوج بالسمن أو الزيت لتعزيز جمال العيون. وكان للكحل أهمية في العصر الإسلامي، وكان يُعتقد أنه يجلو البصر، ويحمي من العين الشريرة. واليوم، لا يزال الكحل منتجًا تجميليًا شائعًا في حين أن التركيبات الحديثة غالبًا ما تشتمل على مكونات مثل أسود الكربون وزيوت مختلفة ولا نكاد نلمح عيناً تخلو من الكحل في تكريس آسرٍ للجمال.
صناعة الكحل أظهرت عيون بعض الفراعنة مزينة بالكحل الأخضر، ومردّ ذلك للمرمر (المقدم من الآلهة حتحور آلهة الحب وفق اعتقاد النساء) والذي مزج مع خليط الكحل الأصلي المكون من السخام “الفحم” مع معدن غالينا. أما الكُحل فكان يستخرج من الملخيت ومن خامات النحاس أخضر اللون، كما استخلص من الجالينا (خامات الرصاص أشهب اللون). ثم خلط المسحوق الناعم بالماء أو الصمغ، الراتنج أو الزيوت نباتية لتكوين عجينة لينة. وكانت أغلبية الكحل تصنع من كبريتيد الرصاص الممزوج مع الزعفران والشمر.
أما الكحل العربي فكانت أول من وضعته (زرقاء اليمامة) امرأة من قبيلة جديس بمدينة “جو”، عُرِفت بجمالها، وامتازت ببصرها القويّ ومن هنا ظفرت باسمها. وكان يحضر الكحل العربي من طحن حجر الكحل أو الإثمد، وهو من أشباه المعادن لامع هش سريع التفتت. ويتميز بأنه أفضل أنواع الكحل لخلوه من عنصر الرصاص المكتنف لمعظم أنواع الكحل والتي تسبب ضررًا بالعين عند استخدامها لفترة طويلة.
وهنا أذكر أبرز الكتب العتيقة التي اختصت بصناعة الكحل (المهذب في الكحل المجرب) لمؤلفه علاء الدين ابن أبي الحزم القرشي والذي قال في وصفه: صناعة الكحل موضوعها أعين الناس بما هي قابلة للصحة ومقابلها. ومقصودها حفظ صحة العين. وإنما اختصت العين بصناعة دون بقية الأعضاء لصعوبة أمراضها وأوجاعها، والاضطرار في عمل أدويتها واستعمالها إلى خبرة تامة.
وانتهي بـ “مقلةٌ كحلاء نجلاء”، خلقةً كأن أباها الظبي, أو أُمَّها مَها وفق ابن الرومي ، وبجميل بثينة وقد ظفرت العينان المكحولتان بلبه :
رَمَتني بِسَهمٍ ريشُهُ الكُحلُ لَم يَضِر
ظَواهِرَ جِلدي فَهوَ في القَلبِ جارِحي