معرض «رؤيا مكتوبة».. الكلمة وتجلّياتها البصرية
تشرين- بديع صنيج:
“الكلمة، الرؤية، والحلم” هي ثلاث ركائز بُني عليها المعرض الفني “رؤيا مكتوبة” الذي أقامته مؤسسة مدد للفنون البصرية في مبنى بريد دمشق، توثيقاً لأولى ورشاتها الفنية التي هدفت إلى التعمق في الأشكال التجريبية، واستكشاف أبعاد جديدة للكلمة في تأثيرها على الروح الإبداعية للفنان، سواء التي تظهر في عمله، أو من خلال تطوير ملكاته في الكتابة لإيصال صوته وأسلوبه إلى الآخرين.
المعرض استطاع بجزئية منه أن يُغيِّر ملمحاً هاماً من ملامح المدينة، إذ حوَّل مدخل البريد بشرفته المُطِلّة على ساحة الحجاز في شارع سعد الله الجابري إلى ملتقىً فني، يحفّز جمهور الطريق على التفكير بمعنى كلمات مثل “حلم، أفق، عطاء، فن، أمل، محبة، جَمال، روح، …” ودلالاتها، بعد وضعها في مكان مرتفع مُضاء ضمن إطار موحَّد بشكل العين، ويتوسطها أحد الأعمال المشاركة بعنوان “بصيرة” لجودي شخاشيرو ومريم الفوال عبارة عن شاشة مستديرة تعرُض عيناً تتابع المارّة وتترقَّب تحركاتهم، وكأنها تدعوهم للمشاركة في رؤية المعرض وأحلام فنانيه، خاصةً أنه في مبنى قائم منذ عام 1944 يسخِّر وجوده لخدمة التواصل بين الناس، ويحمل في تفاصيله أصداء الماضي بروح الحاضر المستمر.
فبين البصر والبصيرة، الرؤية والرؤيا، المظهر والجوهر، الكلمة والمعنى، اشتغل خمسة عشر فناناً على تصوُّراتهم المختلفة في محاولة “لاستكشاف ﻛﻳﻑ ﻳﻣﻛﻥ ﻟﻠﻛﻠﻣﺔ ﺃﻥ ﺗﻧﻔﺗﺢ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﻟﻡ ﻳﺗﺟﺎﻭﺯ ﺃﺣﻳﺎﻧﺎً ﺍﻟﻌﻣﻝ ﺍﻟﻔﻧﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﻣﻌﺭﺽ، ﻣﺎ ﻳﻭﻓﺭ ﻧﻅﺭﺓ ﺛﺎﻗﺑﺔ ﻟﻼﺗﺟﺎﻫﺎﺕ ﺍﻟﻔﻧﻳﺔ ﺍﻟﻣﺧﺗﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺛﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻣﻌﺎﺻﺭﺓ ﺍﻟﻣﺣﻠﻳﺔ ﻭﺍﻟﻌﺎﻟﻣﻳﺔ، ﻓﻳﺿﻊ ﺍﻟﻔﻧﺎﻥ ﺃﻭ ﺍﻟﻧﺎﻗﺩ ﺇﺻﺑﻌﻪ ﻋﻠﻰ ﻧﺑﺽ ﻋﺻﺭﻩ ﻣﻥ ﺧﻼﻝ ﻋﻣﻠﻪ” حسبما جاء في البيان الصحفي لمؤسسة مدد.
نور بركة في عملها “ذكريات معاصرة” جعلت من مُقلة العين مجموعة من الطبقات تجتمع على محور واحد، وكل طبقة عبارة عن لوحة تتضمن رسائل ومظروفاتها ذات اللون البني أو الأبيض المُزَنَّر بالأحمر والأزرق، وأيضاً طوابع، وفق تشكيلات فنية متنوعة، بحيث أنك لا تكتفي بتلمُّس جماليات كل لوحة بألوانها المختلفة، بل إنك تُدقِّق بمضامين رسائل الحب، وعناوين الشغف، وتواريخ الحنين، ضمن محاولة لاستنهاض جماليات قديمة في البال وتثويرها من جديد.
وفي إطار اللامتناهي تتوزع عيون لين العيناوي حول عقارب ساعة، لا تشير إلى الدقائق والثواني والساعات بقدر ما تبحث في امتداداتها وتأثيرها على تغيرات الرؤى، وذلك ضمن عملها “زمن” الذي تتشعب فيه العقارب مكوِّنةً نجمةً أو شمساً تُضيء مسارات العين في تحوُّلاتها المستمرة.
“لينا حمزة” في “رسالة إلى أمي” توغل في الوجدانيات، جاعلةً من القزحية مجموعة من الطبقات المشغولة يدوياً كنوع من التطريز بخيوطه الملونة المتقاطعة، إلى جانب بعض الزخرفات على الكرتون الأخضر، وكأنه استذكار لعيني الأم بنظرتها الحانية إلى أطفالها، أحلامها المتجسِّدة فيهم، واختبارات الأيام على أفكارهم وأجسادهم ورؤاهم، إلى الدرجة التي تصبح فيها الأم مرآةً صادقة لأحلامهم، أو كما عبَّرت لينا “ﻟﻁﺎﻟﻣﺎ ﻛﻧتُ ﺟﺯءاً ﻣﻥ ﺃﺣﻼﻣِﻙ ﻓﺄﺻﺑﺣﺕِ ﺣﻠﻣﻲ. ﻋﺷﻘﺕُ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﻣﻥ خلالك، ﺗﻌﻠّمتُ ﺍﻟﻔﻥ ﻣﻥ عينيك ﻭﺍﻟﻛﻠﻣﺎﺕ ﻣﻥ ﺃﺣﻼﻣﻙ”.
وبالانسجام مع روح العمارة لمبنى البريد قدَّمت ليانا الفيغاوي “أحلام يقظتها” من خلال زخرفة إسلامية تُحيط بمرآة مكسورة تعبيراً عن الشروخ العميقة التي يعانيها الإنسان، وتنعكس باستمرار عليه وعلى تصرُّفاته وطريقة تفكيره، جسَّدتها عبر تسليط ضوء على تلك المرآة وانكساره على وجوه المتأملين، لكن لينا كنوع من تحقيق التوازن تضيف إلى عملها جناحين مُشكَّلَين من كلمة “أمل” لترميم الروح والانطلاق نحو الحلم.
وفي مسار مختلف وأكثر واقعية، استطاعت رند المفتي مُداوَرَة مفهوم الوقت في عملها “طرقات متقاطعة”، مستفيدةً من لعبة الكلمات المتقاطعة، إذ استخدمت في مرَّبعاتها صوراً لوجوه البشر وانتظاراتهم المريرة، جامعةً بين الوقت والوصول، وتاركةً للمشاهدين متابعة بعض الكلمات مثل “بلد، قوت، الصدق”، إلى جانب صورها لوسائل النقل العامة، والعبارات الطريفة المكتوبة عليها من مثل “لك مطلق الحرية أن تكون حماراً، لكن لا ترفِّس من حولك”، وغير ذلك، قائلةً في تعريفها عن عملها “ﺍﻟﻭﻗﺕ ﻛﻠﻣﺔ ﺃﺳﺎﺳﻳﺔ. ﻓﻲ ﻣﺎ ﻣﺿﻰ ﻛﺎﻧﺕ ﺍﻟﻛﻠﻣﺎﺕ ﺍﻟﻣﺗﻘﺎﻁﻌﺔ ﻷﻭﻗﺎﺕ ﺍﻟﻔﺭﺍﻍ! ﺍﻟﻳﻭﻡ، ﻟﻡ ﻳﻌﺩ ﻫﻧﺎﻙ ﻭﻗﺕ ﻟﻠﻔﺭﺍﻍ.. ﻁﺭﻗﺎﺗﻧﺎ ﺃﺻﺑﺣﺕ ﻛﻠﻣﺎﺗﻧﺎ ﺍﻟﻣﺗﻘﺎﻁﻌﺔ”.
شيرين حسين اشتغلت على فكرة النمو والضمور في عملها “ليس بعد”، إذ ركَّزت على التراب وبتلات الورد وانتشار جذورها، في تصويرها للحياة وتراجيديات البقاء فيها، أو كما عبَّرت بكلماتها “ﺇﺻﺭﺍرٌ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻁﺎء ﺭﻏﻡ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻻﺧﺗﻼﻝ! ﺗﺧﺑﺭﻙ “ﺃﻥ ﺷيئاً ما حدث هنا”.
“ع عين” هو مشروع زينب الأبرار زبيدة الذي زاوجت فيه بين الجانبين البصري والمكتوب، وذلك من خلال قرص دائر على أحد وجوهه رسومات للعين بأشكال مختلفة، بينما يحتفي الوجه الآخر بحرف العين وكلمة عين، وأثناء تدويره تتشوَّه الرؤية وتختلط العيون والحروف، تاركةً لكل مشاهد أن يغرف ما يستطيعه من الكلام وأن يُفكِّر بالدلالات التي تتيحها الرسومات في دورانها بتسارعه وتباطؤه.
بشرى ضبعان اختارت لعبة رمي السهام في عملها “أنا لست نفسي”، بعد أن وزَّعت أوراق الشدّة على دائرتها المعدنية، وأتاحت لكل مشاهد أن يرمي سهمه الذي يحتوي في رأسه على مغناطيس، والورقة التي يصيبها تقلبها فتظهر له كلمة من مثل “أنا العارف، أنا الصادق، أنا الواقع، أنا الخوف، أنا اليقين، أنا النار، أنا الكون، أنا البعيد، أنا الحب، أنا العدل”، فالهدف ليس إصابة منتصف الهدف، وإنما مقاربة العلاقة بين الرَّامي وما يصبو إليه سهمه.
“نظارة وردية” هو عنوان عمل أنجيلا السهوي، وجاء على شكل عدسة أمام العين، مغطّاة بمعظمها باللون الزهري وتتكرر عليها كلمة “شوف”، وكأن العدسة التي لا تتيح الكثير من الرؤية هي بمثابة تحذير بضرورة الإمعان في النظر، على اختلاف الطريقة التي نرى من خلالها الأمور، لأنه بحسب تعبير أنجيلا “ﺍﻟﺑﻌﺽ ﻳﻧﻅﺭﻭﻥ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻡ ﺑﻌﺩﺳﺔ ﻭﺭﺩﻳﺔ، ﻋﻧﺩﻫﺎ ﺗﺧﺗﻔﻲ ﻛﻝ ﺍﻹﻧﺫﺍﺭﺍﺕ ﺍﻟﺣﻣﺭﺍء” وهنا تكمن الخطورة.
رند القطريب آثرت أن تثير الفضول في عملها المؤلف من مجموعة صفحات عليها كتابات ولوحات متمركزة حول محور شاقولي، تسعى لإيقاظ الخيال واستعادة جزء من مخزونات الذاكرة، وبقدر ما يأسرنا تكرارها فإنّ لعبة التَّخيُّل تعيد لنا الحرية في النظر إلى الأمور بطريقة مختلفة.
تتساءل بيسان سلهب “هل هناك طريقة للنجاة سويةً؟”، من خلال تصوير حمامتين عاشقتين في حدقة العين والقزحية عبارة عن نبات “السجّادة” الذي يحتاج إلى عناية فائقة ليعيش في الشتاء، وكأنها في عملها تداور فكرة موسميّة الحياة والحب والسفر، وتسعى لتعزيز واقعية الرؤية بعيداً عن الإنشائيات الساذجة.
أما كريم الخطيب في عمله النحتي فيدعو إلى مساندة ما سمّاه “الوجه الأوسط”، والدعاء له، خاصةً أنه محاط بأشباهه، وبحاجة إلى الدعم باستمرار ليتخلَّص من الشبه ويكون له بصمته الخاصة في الحياة.
في حين أن الليث قرنيط في “إدراك مدوَّر” اشتغل على ربط الحروف من لغات القديمة إغريقية ولاتينية مع حروف اللغة العربية بشكل بصري مميز، وتوظيف حركيَّتها مع أشكال دائرية ومستطيلات بما يخدم فكرته التي تؤكد أنه “في البدء كانت الكلمة”.
ﺃﻧﺱ ﺯﻭﺍﻫﺭﻱ وﺭﺅﻯ ﺍﻟﻘﺻﻳﺭ قدما كتاباً فنياً (مطويّة)، تحت عنوان “كلمات تخلق من فن” ﻳﺿﻡ ﺃﺟﺯﺍءً ﻣﻥ ﺃﻋﻣﺎﻝ ﺍﻟﻣﺷﺎﺭﻛﻳﻥ، وتم ربطه مع سبع نسخ لأعمال تشكيلية منفذة يدوياً.
يذكر أن الورشة التي نتج عنها المعرض أقيمت بين 14 آذار و6 نيسان في مقر مؤسسة مدد في دمشق القديمة التي ترأس مجلس إدارتها الدكتورة بثينة علي، وأشرف على الورشة كلٌّ من الدكتور سائد سلوم، والدكتور إياد محمود، المحاضِرَين في كلية الفنون الجميلة، سعد القاسم رئيس تحرير مجلة الحياة التشكيلية، زينة شهلا الصحفية والباحثة في الشؤون الثقافية والاجتماعية، داني مكي الصحفي المتخصص بالشؤون الثقافية السورية والكاتب في المنشورات الدولية، المهندس مروان طيارة ﻣﺅﺳﺱ ﻭﻋﺿﻭ ﻣﺟﻠﺱ ﺃﻣﻧﺎء ﻣﺅﺳﺳﺔ ﻣﺩﺩ والذي سبق أن عمل ﻣﺩﻳﺭاً ﺗﻧﻔﻳﺫﻱاً ﻓﻲ ﺗﻅﺎﻫﺭﺍﺕ ﻓﻧﻳﺔ ﻋﺩﻳﺩﺓ، وكاتب هذا المقال.