تقلبات المناخ في سورية تخضع لتغيرات مناخية عالمية.. والتنبؤ بها أصبح استثماراً يحفظ الأرواح والممتلكات
دمشق- ميليا اسبر:
تعيش سورية خلال السنوات الأخيرة الماضية ظروفاً مناخية استثنائية، منها حدوث عواصف شديدة وكذلك سيول وفيضانات، وفي بعض الأحيان يحدث وبشكل مفاجئ ارتفاع كبير في درجات الحرارة وكل ذلك في غير موعده، هذا الانقلاب المناخي ترك انعكاسات سلبية على موارد الطبيعة، ما أثار مخاوف الكثير من المواطنين من جراء تلك التقلبات المناخية المفاجئة.
ويبقى السؤال الأهم الذي يتبادر إلى أذهان الكثيرين: ما سبب هذا التغير في حالة الطقس؟ وما تأثير ذلك على البيئة؟ وما هي المخاطر التي يمكن أن تحدث؟.
التغيرات المناخية العالمية
مدير الشؤون الفنية والبحوث في المديرية العامّة للأرصاد الجويّة المهندس بشار عرابي أوضح في حديثه لـ” تشرين” أن سورية والعالم يشهدون في هذا العام والأعوام القادمة كما شهِدوا في السنوات السابقة مناخ التغيرات المناخية العالمية، وما ينتج عنها لحالات الطقس المتطرف، من حيث زيادة حدّة الجفاف وتكراره وانحباس الأمطار لفترات طويلة في المواسم المطرية أو حدوث عواصف مطرية بشدات عالية ولفترات قصيرة تؤدي إلى فيضانات خاطفة وسيول وانجرافات وأضرار مادية، وكذلك العواصف الرملية و الغبارية، معتبراً أنّ النشاط البشري هو السبب الرئيس منذ الثورة الصناعية الأولى (عصر المكننة والآلات) في القرن الثامن عشر ولغاية وقتنا الحالي والثورة الصناعية الرابعة (عصر التكنولوجيا) لظاهرة الاحتباس الحراري المسببة لتغير المناخ العالمي، وذلك بسبب ازدياد نسب تراكيز الغازات الدفيئة وهي: (ثاني أوكسيد الكربون – بخار الماء – الميتان – أكسيد النيترات…) في الغلاف الجوي لازدياد قذف الملوثات في الجو بمعدل أعلى من 70% مقارنة لمستوى تلك المقذوفات في عام 1970 من خلال احتراق الفحم والنفط والغاز من عوادم السيارات والمصانع، وأيضاً قطع الغابات واستخدامها في الصناعة والوقود، إضافة إلى الحرائق التي تحدث فيها، كل ذلك أدى إلى زيادة في الاحتباس الحراري وأيضاً خلل في النظام المناخي لكوكب الأرض وازدياد في متوسط درجة حرارة الهواء على كوكب الأرض حالياً لعتبة 1.5 درجة مئوية منذ الثورة الصناعية الأولى.
الأرصاد الجوية بصدد إنشاء منظومة إنذار مبكر من الطقس المتطرف وشبكة محطات آلية للرصد الجوي
وذكر عرابي أنّ 197 دولة تبنّت في مؤتمر الأطراف IPCC في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ ( 21 COP) بتاريخ 12 كانون الأول/ 2015 اتفاق باريس، حيث انضمت سورية إلى الاتفاق في عام 2017، ويهدف إلى الحدّ بشكلٍ كبير من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية والحد من زيادة درجة الحرارة العالمية في هذا القرن إلى درجتين مئويتين مع السعي إلى الحد من الزيادة إلى 1.5 درجة، و تشير الدراسات الحالية إلى أنّ هناك احتمالاً بنسبة 66 % بأننا سنجتاز عتبة 1.5 درجة مئوية من احترار الأرض في وقت ما بين الآن وعام 2027.
حالات غير طبيعية
وأشار عرابي إلى أن تغير المناخ يعدّ حالة طوارىء عالمية تتجاوز الحدود الوطنية، وبالتالي تخضع الظروف المناخية العالمية وفي سورية إلى حالات غير طبيعية، حيث شهدت سورية في السنوات العشر الأخيرة تزايداً كبيراً في حدوث الظواهر الجوية المتطرفة مثل: عواصف غبارية غير معتادة (2015 و 2022) وتزايد حدة وتواتر الموجات الحارة والتي تسببت بحرائق في مساحات واسعة من الغابات والأراضي الزراعية(2020 و 2023)، إضافة إلى الأضرار الكبيرة على البيوت الزراعية البلاستيكية الناجمة عن الشواهق المائية (التنين البحري) والفيضانات الخاطفة التي أدت إلى سيول جارفة وأضرار كبيرة في المزروعات (سهل عكار 2023) وزيادة في حدة الجفاف لفترات طويلة بسبب انحباس الأمطار، كل ذلك أثّر سلباً على الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة وسبل العيش.
عرابي: شهدت سورية في السنوات العشر الأخيرة تزايداً كبيراً في حدوث الظواهر الجوية المتطرفة مثل عواصف غبارية غير معتادة وتزايد حدة وتواتر الموجات الحارة والشواهق المائية والفيضانات الخاطفة
تغير المناخ أمر حتمي
وأكد عرابي أن استمرار تغير المناخ يعدّ أمراً حتمياً، تدلّ عليه سجلات الرصد المناخي والبيئي في مختلف أنحاء العالم، ويعدّ من التحديات الرئيسة التي تواجه التنمية المستدامة كما ورد في التقرير الأول للتنمية المستدامة في سورية الصادر في بداية عام 2019، إذ ستكون له انعكاسات سلبية على الموارد الطبيعية وعلى القطاعات الاقتصادية مثل تراجع الغطاء النباتي وفقدان التنوع الحيوي وانخفاض الإنتاج الزراعي، وأيضاً النقص في القدرة على تأمين الغذاء والماء، منوهاً بأنه مع تزايد حدة التغيرات المناخية تزداد وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة حاملةً معها انعكاساتٍ سلبية أكبر على النظم البيئية والاجتماعية والاقتصادية الهشة. فعلى سبيل المثال تعدّ العواصف الغبارية من الظواهر البيئية الخطرة التي تنشأ في الكثير من المناطق الجافة من العالم وتحمل تأثيرات سلبية ليس فقط على صحة الإنسان في المناطق الجافة، وإنما في كل البيئات التي تحلّ فيها الرياح التي من بينها قد تكون المراكز الحضرية الكبرى في العالم. لافتاً إلى أنه يمكن أن ينقل الغبار الجراثيم والبكتيريا والفيروسات والملوثات والمركبات الكيميائية والمعدنية، ما يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض مثل الاضطرابات التنفسية والقلبية والحساسية الجلدية وبعض أنواع الحمى، إضافة إلى ذلك تتسبب العواصف الغبارية بخسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة، إذ تؤدي إلى مرض ونفوق الماشية وتلف المحاصيل الزراعية والإضرار بالمباني والبنى التحتية، وقد تصل الخسائر في بعض الأحيان من عاصفة واحدة إلى مئات الملايين من الدولارات عدا عن التكاليف البيئية على المدى الطويل مثل تعرية التربة وتلوث النظم البيئية والتصحر، كما أن العاصفة الغبارية تضر بحركة النقل والطيران بسبب تدني الرؤية.
الظواهر المناخية المتطرفة لها انعكاسات سلبية أكبر على النظم البيئية والاجتماعية والاقتصادية الهشة
الزلازل والمناخ
ولدى السؤال فيما إذا كانت الظواهر الطبيعية التي تحدث في سورية مثل زلزال شباط العام الماضي أو الهزات الأرضية التي تحدث بشكل مستمر يمكن أن يكون لها دور بتغيير مناخ أو طبيعة البلاد؟ أجاب عرابي بأن الزلازل تحدث بسبب الإطلاق المفاجئ للطاقة في القشرة الأرضية، ما يخلق موجات زلزالية أو هزات أرضية، حيث تعتمد قوة الزلزال على مقدار الطاقة المنطلقة، وحركة الأرض، وعمق الزلزال فإن تكتونية الصفائح التي تُعَدّ الزلازل أحد مظاهرها، يمكن أن تؤثر في المناخ على مدى فترات طويلة من الزمن الجيولوجي، وقد بينت الدراسات أن الزلازل أصبحت أكثر تواتراً وشدة نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري، حيث إن الزلازل تسبب موجات تسونامي، فالأبحاث الجديدة (وكالة ناسا) تكشف أن الأعاصير إلى جانب أحداث أخرى ناجمة عن تغير المناخ و يمكن أن تؤدي إلى زيادة في النشاط الزلزالي، وعندما تحدث تغيرات كبيرة في الضغط الجوي بالتزامن مع الأعاصير، فإن ذلك يسبب إطلاق الطاقة المخزنة في القشرة الأرضية، ويؤدي هذا إلى حدوث زلازل قد لا تكون بالعنف نفسه، ولكنها تستمر لفترة طويلة نسبياً، حتى بعد أن تهدأ مياه العواصف، منوهاً كذلك بأن العلماء اكتشفوا أن الرياح الموسمية تزيد بالفعل من وزن الماء (وخصوصاً في البحيرات) على القشرة الأرضية إلى درجة أدت إلى تغيير النشاط الزلزالي في جبال الهيمالايا ومع ذوبان الأنهار الجليدية بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري تتحرك الصهارة Magma تحت السطح وتسبب تغيرات في الضغط على قشرة الأرض و يمكن أن يؤدي إلى زيادة النشاط البركاني، والذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بتطور الزلازل.
منظومة إنذار مبكر
عرابي كشف أن المديرية العامة للأرصاد الجوية تعمل على إنجاز مشروع إستراتيجي وطني لإنشاء منظومة إنذار مبكر وشبكة محطات آلية للرصد الجوي، حيث سيسهم في تأمين منظومة إنذار مبكر من الطقس المتطرف من شأنها حفظ الأرواح والممتلكات، وخاصة مع ازدياد تواتر حدوث هذه الظواهر (حرائق غابات، عواصف غبارية ورملية، أعاصير مائية…) كما تسهم بيانات هذه الشبكة بتقدير ونمذجة هذا التغير بهدف التكيف والتصدي للاحتباس الحراري من خلال الخطط الإستراتيجية، ولاسيما الزراعية والمائية واستثمار الطاقات المتجددة.
موضحاً أنّ المشروع يحقق عدم الازدواجية في العمل بين مختلف الجهات ويعمل على توفير المال العام، وأن إنشاء منظومة رصد جوية ودعم عمل الأرصاد الجوية يعد استثماراً اقتصاديّاً ناجحاً يعود بفائدة اقتصادية تم تقديرها بحسب منشور المنظمة العالمية للأرصاد الجوية رقم 1153 بمقدار400 -800% من التكلفة في حال تم الاستثمار الأمثل على المستوى الوطني خلال سبع سنوات.