عصافير تنقر أصابع كَفيِّ (تأملات في الحب والحياة)

تشرين- غفران سليمان كوسا:

الأدب عموما نشاط إبداعي، حكائي، تخيلي…لكن الشعر يزيد على ذلك بصوره الفنية التي تشكل قيمته، والشاعر الحقيقي هو القادر على تكوين صور إبداعية ليبني بها قصيدته، فلا نجد فيها صورا نمطية، بل يدهشنا بخياله ويجعلنا ننظر إلى قصيدته كما ينظر فلكي لاكتشاف نجمة جديدة، والشاعر توفيق أحمد تميز بخلق أكوان لقصائده في مجموعاته الشعرية ككل، اكتملت أكوانه بشموس وأقمار مجموعته (عصافير تنقر أصابع كفي )التي تضيء نهارات الفكر النقي، وتتسامر مع لياليه لتزلزل ما كان لتكون كل قصيدة من قصائدها الخمس والأربعين نموذجا عن الشعر الذي قال عنه أدونيس بما معناه إنه الشعر ، مجموعة صادرة عن دار بعل بدمشق عام ..2024
يستهل المجموعة بمقدمة طويلة تدور حول قصيدة النثر ،تلك القصيدة حبيبة الجماهير في السر والعلن، والمرجومة من قبل أتباع القصيدة الفراهيدية…يدلي الشاعر (توفيق أحمد) بشهادته الصريحة حول قصيدة النثر وجاء في المقدمة:
(كُلُّ نَثْرٍ مدروسٍ يُشَكِّلُ إضافةُ جديدةً.
مَنْ يصدقني إذا قلت: إنني أرى روحي تَحوم بين كلمات النص باعتبار أَنَّ كلي وليس جزئي يَنْصَبُّ فيها؟)
ونلحظُ حقيقةَ روح الشاعر تراقص كلمات المجموعة فَتُحَلِّقُ عالياً لتترك أثراً لو أمسكنا به بشغف لأصبح قيثارة تطربنا على مدى مئتين وست وسبعينَ صفحة بدأها بقصيدة:
عززي إرادتي باستقصاءِ أشيائِكِ
أختار منها:
(حين لَمْلَمْتُ رؤايَ
أَوْدَعْتُها في أوعيةِ دماغِكِ
رماني بِلَّورُكِ بكثيرٍ من الانعكاسات
ولكنها لم تُطفئ لهيبَ اكتشافي للأشياء…)
أما في : جغرافيا الملذات
ينسج عشقا حقيقيا ليس سحابة من ورق محترق:
قد تكونين حُلُماً مستحيلاً..
ذلك لا يهم..
إنما أُنْذِرُكِ بكامل سَطوة عشقي
بأن قلبي الآن. لا ينبضُ إلا بأصدائك
النص الثالث حقيقة يحقق كل ما قيل عن الإبداع في الشعر، الصور الفنية، الادهاش، الشاعرية الجدة…
تمارين الألم
كوني لؤلؤة أيامِكِ..
كوني ضفةً.. ونهراً
ونحلاً يُقَبِّلُ الزَّهْرَ..
وصيّاداً..
لكنه في قصيدة : على حَوَافِّ فَمِها سَأُريقُ خمرتي
يَسْكُبُ خموره، وتشرد ظنونه ويوغل في تأويل مفردات قمحها، و مرايا أصابعها حين يقول:
لشوقي كبرياؤه وطريقته في الشرح
بداية: الأمكنةُ عند الشاعر توفيق أحمد تبكي وتنام وتركض، كما أن الزمن يقاس بالغصات والزنابق :
مضى على غيابِكِ عَشْرُ غَصَّاتٍ
وسَبْعُ زنابقَ
حين غادَرْتِنا ذلكَ المساءَ
زَحَفَتْ وراءَ حافِلَتِكِ مواسمُ غزيرةٌ من الوجع
وعند عبورِكِ الحدودَ الغربيةَ
انتفضتْ أسرابُ السنونو من أعشاشها
..
إذا كان الشعر العمودي مطالَباً بضرورة الانسجام التام بين القافية والوزن وأن لا يغفل عن اللفظ والمعنى، فإن الشعر النثري مطالَبٌ بالشعرية، والتجديد اللغوي ، والادهاش
ومن يود أن يقرأ شواهد تتضمن الشعرية بأنواعها، والتجديد اللغوي الفني والجمالي المطلوب، مع انقطاع أنفاسه من الدهشة والإعجاب أقول له ستجد كل ذلك في كل قصيدة من قصائد هذه المجموعة..
قصيدة توفيق أحمد روح يألفها القارئ، يصافحها، يرتاح على حرير حروفها، ترافقه لغتها، يألف صدقها ويستمتع بحركتها، يستنار بضوئها..
يرفع شاعرنا في هذه المجموعة سماءً من الجمال بطريقة إبداعية، تتزين بالنجوم والمجرات ، وتنمو في جمله آلاف السنابل العامرة بالهوى فتميل مثقلة بحملها :
نوايا مملوءة بالألوان
الهوى قد يكون عبئاً على الهوى..
يا فراشةَ روحيَ اللاهيَة
أنا مصباحُكِ العاري..
في كل عنونةٍ فضاءٌ، وفي كل فضاء من فضاءات قصائد الأديب توفيق أحمد جنة لا يثمر تفاحها، فيبقى العشاق فيها خالدين
في قصيدة: حدائقها يانعة على أسئلتي:
يا لها من يماماتٍ ناضِرةٍ
تلك التي سَتْحفِرُ بريشها
مكانَها بين العائِمَيْنِ
أي خيال هذا الذي نرى خلف سطوره
عصفوران ليسا بريئَيْن من أيةِ تهمةٍ قادمة
قصائِدُكِ وسامٌ في ذمتي
سَأَرمي مطايايَ على زلازلها
ولن يَمْنَعَني من ذلك كَمُّ الثياب التي تَجْلُدُ جَسَدَكِ…
أُريدُ لوناً آخر للورد
أُريدُ عصفاً مختلفاً للريح
أُريدُ ألواناً جديدة …
نجد أننا لا نقرأ شعراً في هذه المجموعة بل تعزف الكلماتُ على أرواحنا ألحاناً طوباوية، وتسبُرُ أغوارَ النفس فتسمو بمضامينها فوق المألوف:
نجومُكِ مشدودةٌ إلى سلالمي
آما آن لعينيكِ
أن تَفُكَّا وِثاقي؟…
لا يليق بها سوى الفردوس.
ولأن كل شيء مباح في الشعر فقد عصر الشاعر توفيق أحمد حبره لنسكر بحلاوة كلماته ونهيم في عوالم خياله، ونبني أحلاما في حدائق أسئلته، ونكون من بين أرهف العشاق في مملكته، نلحق بنجومه التي تركض بأهدابها إلى واد من عيون الينابيع، فنشاركه في كتابة: رسالة إلى الريف
كُلُّ ما كَتَبْتُهُ كان بفضل الريف
وجع السنابل، و ظمأُ السواقي..
فالريف لا يحتاجُ إلى نواطير..

كما نجد أَنَّ أدواتِ الشاعر التعبيريةَ حاضرةٌ في تراكيبه الشعرية الناضجة والتي يُمكنُ إعادةُ إسقاطِها على دلالاتٍ عدة مؤكدة تَسَلُّحَ الشاعر بعبقريةٍ فريدة استطاعت خلق أسراب من القصائد الكونية الخالدة
لنقرأ مقطع من قصيدة بعنوان :
ظباؤها ترعى في دمائي
كان يجبُ أن تَتَّسِعَ باديةٌ لبحرٍ
وباعتباره انْزلَقَ إلى أحضانها
وبكونها تحتاجُ حتى الواحات الصغيرةَ الهامدة.َ.
كان يمكنُ ان يتحالفا بحراً وباديةً
لأنهما ليسا خصمين

في القصيدة الرائعة( أدعو ضفائرك للتفاوض مع أصابعي) يتجاوزُ الشاعر المعاني السائدة ويبتدع لغة لقصائده، بليغة ، ثرية، شفيفة وواضحة ، ومع أنها فصيحة إلا أنها تعشق التخفي والمناورة ببعض الغموض
نقلب مع الشاعر صفحات الذاكرة :
نقلب صفحات ِالذاكرة بأصابعَ مشرعة
تنبعثُ رائحةُ شذاكِ
مُورِقةً بالحنين والحكايا
ذاك الشذا العابرُ للروح والأمكنة
أَترَاهُ قد يَشْرُدُ ثانيةً في براري النسيان
وقد خَذَلَتْهُ صروفُ الزمن…

وجه القصيدة في هذه المجموعة وجه حسناء تزينت ليوم الزفاف، تَظْهَرُ بكامل أناقتها، جمالها وحركتها، فَعَتَباتُ القصائِدِ في هذه المجموعة تكاد تكونُ، ومْضَةً، أو قصةً قصيرةً جداً مكتملةَ البناء والتي لم تكتمل ستفعل في ذهن القارئ:
-المجد للهذيان
كم نحن بحاجة لاعلاء راية الهذيان
تُجاه كُلِّ شيء…
-العصافيرُ تنقر أصابع كفي
ثمة من يُصادر الحُبَّ
واضعاً العِصيَّ في عجلاتِهِ الذهبية
بعد إخفاقه في إضعافه.
كل قصائد (عصافير تنقر سنابل كفي) اعتمدت مخاطبة الحبيبة بلوحات سيميائية ترسمها كلمات الشاعر بعفوية، لنقل بشاعرية فذة فتحمر هوامش الصفحات التي تنام على يمين مفردات حجزتها اللغة فقط للعشق:
عندما يبوح باسمها المتزاحم بالأنين..
..ترقص بأمان حيث يُصغي لرنين جسدها
..لأجل أن أتعرف أكثر على خصال جيدها
سألف يدي حول جمانه
وأطير..
لأقطف بعض الأنجم عن وجنتيها
..
تعزف هذه المجموعة على أوتار اللهفة والشوق، توقد حرارة اللقاء والانتظار، تستحضر فتنة الوجود، وتداعيات المواعدة، تتعانق الألفاظ التي تجعل الرغبات سيولا وجراحات:
حين ترف نَخْلَةٌ على أصابعي
أَدُلُّها على أزهارها
قبل ان تقتلك تحت اي شعار عامدة قاصدة
اذا كانت القصيدة النثرية كقصائد الشاعر توفيق أحمد قد نجحت في بناء نص شعري إبداعي بطريقة فنية مبتكرة، ومع ذلك يقال عنها ابنة حرام لتعلن الحروب على كثير من أولاد حلال أبيات الشعر التقليدي الذين لا يحركون ساكنا في القلب والفكر والوجدان كما تفعل هي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار