في محاولته لصياغة أكثر الصور جمالاً.. الشاعر زهير حسن: النقد ضرورة لبيان مواطن الكمال والجمال في القصيدة
حوار – هويدا محمد مصطفى:
استطاع الشاعر زهير حسن أن يأخذنا إلى شاعريته الواسعة وعبر خطابه الشعري ومفرداته القابضة على اللحظة الهاربة ليكتب القصيدة ويغوص في الأعماق اللغوية والاشتقاقات المبتكرة عبر رؤيته الفنية لقصيدة التفعيلة والنثر.. وعبر مخيلته يسكب أريج الواقع في انفعالات الورق ليكتب القصيدة بكل ألوانها.. له العديد من الإصدارات الشعرية: /الزمن الرمادي/قلب مصلوب/مازالت الأطياف تغني/رحيل اليمام/سقوط ورقة التين/..وقيد الطباعة كروم الغناء.. الشاعر زهير حسن أخذنا إلى عالمه الإبداعي من خلال الحوار التالي.
في المرحلة الثانوية كانت أولى درجات سلم البحث عن المعرفة والفكر وتركيب النص أو القصيدة
* لكل مبدع بداية فكيف كانت بدايتك؟
كل شيءٍ يبدو قاتماً ومؤلماً حين يبدأ الوقت يخرج من صدرك ولا يعود.. من هنا بدأتُ من المرحلة الإعدادية حيث كنّا نتنافس في المذاكرات المدرسية لنيل العلامة الأفضل، وكان الوازع هو الحب واستمالة قلوب الصبايا رفيقاتنا في المدرسة لنشعر بنشوة التفوق والانتصار ثم نشوة الحب البريء.. واستمرّت حالة التنافس مع دخول المرحلة الثانوية، وفي كل حالة كنت أحاول كتابة كلمات جميلة مزهرة لمنْ هويت حتی ارتقی مستوی اجتهادنا إلی بداية الدخول في نسغ النصوص الأدبية التي نطالعها ورحنا ننظم علی شاكلتها، وكانت أولی درجات سلّم البحث عن المعرفة والفكرة وتركيب النص أو القصيدة.
حين تقتحمك فكرة أو مسألة تراودك باستمرار فتنسكب القصيدة ظلاً لما تراءى لك
* هل تجد نفسك منهمكاً في كتابة النص.. كيف تصف لنا الحالة؟
يحدثُ أن يبحث عنك وقتُك الغائب، ومثلَ برقٍ يهمزك مطر الكلام فتنساق الكلماتُ كنغمات نايٍ في دروب الحياة، حتی إذا توقف العزفُ رجعتُ لما كتبَتْه في قلبي تلك الحالة فأهذّب ما كان قاسياً منها، وغالباً يأتيك الومضُ أو الوحي وأنت ساهماً في الخلاء أو حين تقتحمك فكرةٌ ما أو مسألة تراودك باستمرار فتنسكب القصيدة ظلّاً لما تراءی لك، وحين تستفيق من الرؤيا تراها عروساً ترفل بأعذب الألحان وأجملها.
* كيف تكتب وأنت تنظر إلى المجهول ودوافعه؟
لا مجاهيل في الشعر، إما أن تكونَ فارساً هَجوماً أو تدوسك الخيول، والشاعر هو الفارس والمسبار المتين لاقتحام المجهول وإضاءة ما خفيَ من خلال رؤياه ونبوءته واتساع مدی خياله ودافعُه الواجب لتبيان الحقائق والبناء علی ما يستجدّ.
* من يحرضك على الكتابة وهل الحالة النفسية تؤثر في ولادة القصيدة؟
حين تبدأ رياح المجتمعات بحركاتها الموتورة، تجد نفسَك في بحرٍ مائجٍ أرعن الوثبات، ويفرض الحدث اقتفاء أثر تلك الرياح والغوص في هذا البحر الهائج بعزيمة الملّاح لتمسك بعنان الموج مدفوعاً دائماً بالواجب كنبي.. ورسم الواقع بما تحمله من خيالٍ خصبٍ ومسؤولية أخلاقية لصياغة أكثر الصور جمالاً وواقعية لتبزغَ القصيدةُ من جذوع هذا القلب المتعب من الأعاصير، ومؤكدٌ أنّ للحالة النفسية أثرٌ واضح ودور أساسي غالباً ما تخضع القصيدة لطابعه.
* هل تفتقد متعة وحميمية الكتاب الورقي في ظل الشبكة العنكبوتية؟
نعم أفتقد المطالعة الورقية لكل جديد لِما فيها من متعة لبِستْنا منذ يفاعتنا لاحتضان الكتاب وتقليب أوراقه ورقةً ورقة وتدوين بعض الأفكار علی الهامش، حقاً إنها متعة، أما القراءة الإلكترونية فإنها متعبة قليلاً بعكس الكتاب.
لن يعطيك العنوان شيئاً مهماً من الكتاب مالم تمسك مفاتيحه بقراءته واستكشاف ما وراء الباب
* العنوان وتأثيره على القارئ ما رأيك بذلك؟
في رأيي إنّ خلف كل عنوان غابة لا يدخلها إلا العارف بالمسالك والدروب لغةً ورسماً وفراسةً،
والعنوان ليس بالضروري أن يكون مفتاحاً للقارئ، نعم قد يكون خلّابًا وموحياً ومحفّزاً لفتح الكتاب وسبر أغوار هذه الغابة – قد يكون – وقد تكون تلك الغابة ذابلة والكثير من أشجارها مقطّعة الأوصال ومحطّمة، ولن يعطيك العنوان شيئاً مهماً من الكتاب مالم تُمسك مفاتيحَه بقراءته واستكشاف ماوراء الباب.
* في مجموعتك الشعرية/سقوط ورقة التين/ماذا تعني بذلك؟
في زمن الضباب والغربة تقودُك البصيرة لتتلمّسَ غروب الوقت، فقد كسر المارقون (جِرارَ السبيل) وبات العطشُ لهيباً، هنا نقف علی رصيفنا عراةً وقد ذهبتْ قدسيةُ( التين ) والزيتون والبلد الأمين،المنتهكة مِن قِبل حفنة أدعياء، فالفضيلة سَترةٌ مقدّسة، وحين ذهبَ بها نخّاسو هذا الزمان فقدتْ عذريتها فاستبدلتُ ورقة التوت بورقة التين تكريساً لقدسية المحرمات وبياناً استدلالياً لكشف المستور في زمن المارقين :
وفي نص بعنوان (أيتها البلاد) من مجموعة سقوط ورقة التين نقرأ:
أيتها البلاد
نحن مَن رسمَ فيك الهوی
واخترنا غوايةَ العناقيد وذاك العهد العتيد،
رغبةً في الصلاة لتُقمرَ لياليكِ الطِوال
فاختَرْتِ لنا اكتمالات الذهول!!
قولي لي مِن أين اشترعتِ النوی
حتّی أطفأ الهجرُ في أرواحنا
شمعةَ الميلاد؟!
كأنّ الذي هوی من أعمارنا ماكان عطراً
ولا سِنينَ كأعوادٍ قصّفتها الرياح
ونوافذُك مغلقةٌ ليسفحَنا القهرُ
نرقبُ ومض البرق كغزلانٍ مُطارَدة
وفي كل ركنٍ يكمن لنا صياد.
* كيف هي العلاقة بين القصيدة والنقد؟
إنّ الشعر العذب الذي يدخل النفسَ طرياً لايسلم من النقد مهما كانت صياغته جميلة ومُتقَنة،
والنقد ضرورةٌ لبيان مواطن الكمال والجمال في القصيدة، أو ما لم تدركه القصيدة من نُضجٍ رغم صُنعتها الجميلة ليبعد عنها الإسفاف والتكلّف، فالناقد هو الخبير اللبيب الذي يبتغي سموّ القصيدة وتعاليها لتكونَ آية في الجمال وتُزكي قلوب القرّاء والمتلقين ويبيّن فيها محاسنها وجماليتها للقرّاء لتكونَ كرذاذ الماء في القيظ.
* هل الشعر له زمان ومكان محددين وهل من طقوس خاصة للكتابة؟
بما أنِّ للشعر موضوعاً فمؤكدٌ أنّ له مكاناً هو بيئتُه محور انبعاثه ومنطلقه، لكن زمنَه غير محدد فكل الأزمنة ترافقه من حيث انطلق، وأبغي من تلازمهما بيان جوهر القصيدة ومتانتها وفق رؤيةٍ فكرية حضارية ومفهومٍ جمالي يمنح القصيدة متناً رفيعاً، والمكان أو بيئة الشاعر تُكسب القصيدة أشياء مهمة من مجتمعه تسهم في بناء شخصية الشاعر ومنطلقه.
أما عن طقوس الكتابة فلا طقس محدد إنما عندما تأتي الفكرة أو الحالة الومضة البرقية للدماغ تمتطي القصيدة متن القلم وتمدُّ مدادها قمحاً علی السطور لتكونَ رسمةً بهيّة المعاني تحمل موسيقاها ونقاء مسارها كشروق الشمس فوق المروج الخضراء..
كتبت العمودي الموزون لفترة ليست بسيطة ثم شدتني التفعيلة لجمالية نقلاتها بين السطور
* هل تكتب كل الأنماط الشعرية وأيهما أقرب لروحك؟
في البدايات منذ ١٩٨٢ كتبتُ العمودي الموزون لفترة ليست بسيطة ثم شدّتني التفعيلة لجمالية نقلاتها بين السطور بموسيقاها الجميلة متنوعة المقامات وقتها كان مخاض تطور المجتمعات قد بدا قويّاً وبزخم طلب الجيل الجديد للتغيير متجهين نحو حداثة في كل المتطلبات العصرية التي يتعاملون معها وفق حاجاتهم المعنوية وكان لقصيدة النثر ساحتها الواسعة التي استقطبت هذه الأجيال ودخلت ميدان الشعر من بابه الواسع وفرضت وجودها بحكمة تحررها من قوالب الوزن والقافية المقيدتين لتاريخٍ طويل وباتت تشكل عصب شعر الشباب وتؤدي مهمتها بكل شفافية نحو ذائقة القارئ بسموها البلاغي وصورها البديعة ومتانة تركيبها وغنی معانيها وكنتُ واحداً ممن كتبوها حتی الآن.