العُشرية الحبلى بالتّفاهة.. باكتيريا ضارة في جسد معرفي مُعتل
تشرين- ادريس هاني:
من كان يجهل الفرق بين العُروض الذّاتي والعُروض الغريب في تحقيق موضوعات العلوم، أنّى له استيعاب تتاخم المسائل وتهامسها، لا سيما في عصر باتت العلوم بمثابة مقاولة، باصطلاح فيرابند، أي لمّا تداخلت مسائل العلوم وتشعبت وتلطّفت وسالت. ولقد تصدّى لهذه الحرفة من ظنّ ظنوناً أو فُتن بموضاتها فتوناً، بأنّ الأمر أخصر طريقاً وأيسر منالاً، حتى نسيّ أنّ الاجتهاد هو من الجهد المبذول بأقصى الوسع، وليس طنيناً واسترجاعاً لمفاهيم مستخرجة من حاويات مزابل الفكر اليومي، بعد أن فقدت شُحنتها المعرفية وتلوّثت بها البيئة الثّقافية، إنّ استرجاع المفاهيم المستعملة في طور تاريخي موسوم بالقفر والمحول، أشبه ما يكون باستعمال فرشات أسنان مستعملة.
ولقد نبّهْنا إلى هذا النوع من النّشاط الموبوء بفرض تحدّي على الباحث، في إطار ما أسميناه بالمفهوم الذي يُرمى بعد الاستعمال (concept jetable)، وهو بيان العلّة والمقصود من استعمال المفاهيم، فلا يكفي إبرازها في مفاتيح جرت عليها العادة في التدبيج الظاهري للأبحاث، بل إعادة إنتاج أي مفهوم، إذ لا يكفي وجوده المسبق في المشهد المعرفي، الكلّ ملزم بإعادة إنتاج المفهوم وفق مستحقاته المعرفية، ذلك لأنّ البيئة العلمية كسائر البيئات، معرضة للتلوّث المعرفي، والقرصنة، والتهريب وما شابه.
إنّ الحديث عن المقاصد ليس كافيا للمضيّ بالعملية الاجتهادية إلى برّ الأمان، بل المقاصد حاكية عن بنيات، فإن لم يقف المجتهد على بنياتها، فسيتيه في استحسانات غير مضمونة، لأنّ الاستحسان غير كافي هو نفسه للنهوض بالمقاصد، سواء من الناحية الموضوعية، حيث أنّ الاستحسان يتأثّر بالشروط الاجتماعية والثقافية للمُستَحْسِن، أو من الناحية الذاتية، لأنّ الشارع تلطّف لكي لا يجعل مصير الأحكام رهينة لذوق الآحاد، ومنهم عديمي الدّوق أصلاً.
إن كان المبنى لا عقلانياً، فكيف يُرجى من مقاصدنا أن تكون عقلانية؟ ولا نحتاج التذكير بأنّ من التفّ تاريخياً على قاعدتي الحسن والقبح العقليين والذاتيين، فلا ينتظر أن تتعقلن مقاصده وإن طلب ذات الشوكة في طريق التعويض المُغالط للفجوة العقلانية التأسيسية. فلقد آثر البعض استحساناته الظّنية والعصبية على التحسين والتقبيح العقليين، حتى أنّه استقلّ بمنصوص الشريعة عن مُتعقّلها وفلسفتها، حيث قيام الشريعة من دون عقل اتهام للشرع بعدم اعتبار عقليْ المتلقي والمكلّف، الناظم منه والمنتظم ، عقل يتلقّى ويحلل ويؤوّل وعليه كُلفة البحث في شروط التنزيل والتحقق والإثبات والتلبّس بالمبدأ وحيثيات أخرى، بها تنهض الأحكام الثانوية بعناوينها المتجددة في تاريخ التّكليف وجدل الثبوت والإثبات. وعليه سيكون العلم الناظر في الاستنباط، موصولا بالموضوعات، ليس من حيث أنها ضرورة في التمييز بين العلوم، بل من حيث تأثيرها الواقعي وليس العلمي، وذلك لأصالة الوجود على الماهيات.
إنّ للتنوير ضامناً غير الشعار القابل للاستعمال الخاطئ، فهو مشروط بسياقاته وتاريخه وبنيته، فهو إن شئت، جدل محكوم بشروطه التاريخية على منحى أدرنو وهوركهيمر في جدل العقل، وهو إنسانيّ في بناء الجسور والنقاش العمومي. لقد تلبّست التطرفات بلبوس العقلانية في مشهد شعبوي لا حضور فيه للمجلس الأعلى للحسابات على المفاهيم المستعملة وتهريب المفاهيم العامّة، فانهار بُنيان الفكر المرصوص، وتمرّغت المقولات في مستنقع السوق السوداء لشبيه الفكر وتقليد النظر و”كاملوت” المَفْهَمات؛ ضرب من تدخين أعقاب السجائر، يحيل إلى نوعية المدمنين على تغليط الرأي العام، مدمني سيليسيون وبقايا المفاهيم الفاسدة. المشهد مريع، ونابتة أسئلة التجديد المغشوشة مهووسون بالتيكوك أو -عفواً -التيك توك، لأنّ المستهدف هو المتلقّي خاوي الوفاض، همج رعاع أتباع كلّ ناعق.
كل مفردة في حصاد ألسنة طولى بالمزايدات، تتطلّب اختباراً وتحققاً ونقاشاً، فاستسهال المفاهيم وموضوعات العلوم ومسائلها، هو خبال عقلي يستند إلى صكّ مرور على طريق التّفاهة السّيّار.
هذه الوضعية لن تدوم، حيث لا يصح إلاّ الصحيح. وواضح أن عُشرية التّفاهة أنتجت من هذا النوع قطيعا أثخن في الاحتطاب اللّيلي، والابتياع في الأسواق الأسبوعية على سمفونية الحُمر المستوحشة، الموصولة بنكهة “يوكي” و “لاسيغون”. والحِلاقة في الهواء الطّلق.
إنّ مؤشّر التّقدّم يبدأ من هنا، من تشخيص أدواء الفكر والثقافة، من مكافحة التّهرب الضريبي في مجال المعرفة، عدم الإفلات من العقاب في مجال النّصب والاحتيال على العقل، وأيضا يكمن المؤشّر في مقدار تلوث البيئة العلمية، ومنسوب الطفيليات المضرّة بسلامة المفاهيم الكبرى، يفرض قيام المثقف الحقيقي بدوره في الممانعة.
إنّ المثقف المزيف وجد في هذه الوضعية غير السوية فرصة المُضي حتى النّهاية في تعزيز هيكل الزّيف، تارة بادعاء مخطول، وتارة بركوب عربة التيارات الظلامية أو حماسة الغوغاء أو مراكز الرجعية المُقنّعة. لتعرفنّهم في سقوط ذمتهم في السّرقات الأدبية، وبهلوانية المُطارحة، وتفخيخ المشهد بترديد ما لم يكونوا طرفاً في إنتاجه من مفاهيم وفِكَر. وهم في هذه الهمروجة هائمون جدّاً، أغبياء طُرّاً…