شاخصة الطريق

الحكمة الإنسانية هي التي ابتكرت “شاخصة” الطريق ليعرف قاطعُه بعض الطمأنينة حين يقطعه، وكان الدّليلُ في الماضي هو من يرافق المسافر لأنه يعرف أين المنعطفات وأين الوهاد وأين العوائق، لكن كلَّ هذا مضى بمضيِّ زمن القوافل، وفتحِ الطرقات البرية على امتداد اليابسة، حيث تمضي المركبات، ودليلُها هو “الشاخصة” تنبئُ بالمنعطفات والمنحدرات والتقاطع الخطر والطرق الفرعية، وهي لا تحتاج إلى شروح ومطوّلات لأنها خطوط تجريدية بسيطة رغم اكتنازها بالدلالات!
يحتاج الإنسان إلى مثل هذه “الشاخصة” في مسيرة حياته، لأن “المسير” يعني الطريق، واقعاً ومجازاً! يحتاج إلى موجزٍ يقول له ماذا ينتظره بين آن وآن وهو يتحرك في كل اتجاه وكل شأن، وربما لهذا أيضاً كانت “الشعارات” التي تضعها الأحزاب والمؤتمرات والفعاليات! كانت هذه التداعيات تتوارد إلى خاطري ووجهتي إلى مكتبة الأسد الوطنية في ساحة الأمويين حيث يُعقد مؤتمر اتحاد الكتاب العرب في دورته العاشرة، وقد اختلطت في ذهني توقّعات: حضور الكتاب من كل المدن السورية، زحمة بهو المكتبة بالواقفين على باب قاعة المؤتمر يتبادلون التحيات والأحاديث المرتجلة التي يقطعها قادم جديد، ثم المقاعد المخملية التي امتلأت بكاملها، فبعض التأخير بالافتتاح… فالمداخلات التي سيتكرر فيها حتماً انزياح الشأن العام نحو الشأن الفردي، حتى تجد ضبطاً من رئاسة الجلسة أو أحد الحضور من ذوي الصوت الصارم!
كان الصباح قادماً من ربيعٍ ربما بكّر بسبب الاحتباس الحراري في الكرة الأرضية كلها، والحافلات القادمة من المدن البعيدة قد وصلت أبكر من وصول المقيمين في العاصمة دمشق وفي البهو الذي امتلأ بالابتسامات والتحيات رأيت “الشاخصة” التي قادت كل هذا الجمع في طريق واحد ليكون اللقاء على البرّ! كان الشعار على لوحة كبيرة ذات ألوان زاهية رغم مأساوية واقع أطفال غزة الذين أضاؤوا الوجود بابتساماتهم وتحت الأطفال: “الهوية ثقافة وفعل مقاوم”
لن يطول الوقت الضائع، لأنني سأقف مع حشد القاعة في ساعة الافتتاح دقيقةَ صمت على أرواح الشهداء وأبقى واقفة لسماع النشيد العربي السوري ثم أفاجأ بفيلم أنتجه الاتحاد عن غزة التي أيقظت العالم من سباته أو مواته في السابع من تشرين الثاني، وما عاد تأريخ الأعوام مهماً! إنه اليوم الفاصل في تاريخ خصّ نفسه بذاتٍ فريدة كما منعطفات تواريخ جعلت ما قبلها أحقاباً طواها النسيان، وكان الفيلم يرصد خيطاً من شعاع واسع! كان يرصد المجازر التي طالت الصحفيين في غزة، وصوت يردد في رأسي: يا خيرَ شاخصة وضعها اتحاد الكتاب العرب ليجمعنا في هذا الطريق المبارك!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار