جمالية الصورة وأنسنة الألوان.. عن الفن في خدمة قضايا المجتمع
دمشق- وصال سلوم:
برع الفنان (بيتروس فان شيندل) برسم الأسواق المضاءة بالقناديل واستطاع المزج بين الرتابة الدرامية للحياة اليومية وأنشطة العامة في المساء، وما بين السحر اللوني وظلال النور المستمد من شمعة أو قنديل أو انعكاس ضوء قمر في السماء لتكتمل عظمة لوحاته واستثنائيتها لدرجة استطاعت ترك الأثر الرومانسي العميق على نفسية المتلقي رغم المشاهد المؤطرة لأسواق ليلية مفعمة بالحركة والحيوية، ليكون بحق ظاهرةً فنية أثرت العصر الرومانسي في القرن التاسع عشر بقدرة فنية هائلة لتوفير الانطباع الواقعي والمقنع عن مشاهد الأسواق الليلية، فالصور حية لخضار وفواكه وسمك وأبنية وعمارات وشوارع ونساء يقمن بفعل الشراء أو البيع أمام منبع ضوئي يحدد مرتكزات اللوحة وفي من استطاع أن يكون نجماً بفعل قربه من الضوء، وآخر ظلاله اللونية الخافتة أظهرت فتنة النور والظلام!!
وجاء في قراءة إحدى لوحات فان شيندل:
“إنها تظهر مجموعة من السيدات تحملن السلال ويفاصلن البائعة عن الأسعار، فيما ضوء الشمعة يبرز تفاصيل امرأة جالسة في أقصى اليسار وخلفية اللوحة تظهر المباني القريبة من السوق.. قالوا إنها جزء من قاعة المدينة القديمة، بالإضافة إلى برج كنيسة.. كان محيطها يُستخدم في ذلك الوقت كسوق لبيع اللحوم.”
منظر السماء المبهر والمباني الضخمة التي تخيّم على المكان جعلت من الرسام نجماً عظيماً فيما لو قارنا بين الوجوه والجدران ومنتجات السوق ومصدر الضوء من ناحية، وبين التجسيد الحي والواقعي لتفاصيل السوق التي عدّها بعض النقاد بمنزلة (الأرشيف والسجل الوثائقي) عن طبيعة مدينة أمستردام ومبانيها في القرن التاسع عشر.
فالصورة اللونية كالكلمة يمكن أن تحدثَ أثراً مهماً على حياة الفرد والمجتمع؛ أثراً آنياً وأثراً يدوم في المستقبل، يمكن استثماره بل ومهم استثماره.
أما العظيم بيكاسو وعن سابق إصرار وهدف إنساني، بعيداً عن السياسة، كان يفكّر في إنجاز عمل فني يجسّد فظائع الحرب في إسبانيا من موت ودمار فكانت الـ(غورنيكا) القرية الصغيرة التي تعرضت لمذبحة أثارت الرأي العام العالمي يومها.
لوحة مثلت إسبانيا في معرض باريس، تصوّر فراغاً تناثرت فيه الجثث والأشلاء الممزّقة، وفي الوسط حصان، وثور في الأعلى، وعلى الأرضية أطراف مقطّعة تمسك بوردة وبسيف مكسور، والى أعلى ثمّة يدٌ أخرى تمسك بمصباح ليسلط الضوء على الأشلاء المقطعة وتفاصيل الحرب من دم وموت…
بيكاسو في لوحته لم يشر بأي إصبع اتهام لأحد ولم يرسم مصدر الموت والدمار، فلا طيارات ولا دبابات.. وكان تركيزه على الضحايا فقط.
وعلى الرغم من تفاوت الآراء وتناقضها حول اللوحة، إلّا أنّ الـ( غورنيكا) استطاعت أن تكون أيقونة سلم وسلام، وشهادة حية توثق البؤس والدمار من جراء الحروب.. وكانت الدليل العملي لفكرة الصورة وتأثيراتها الفعلية على الشخوص والآراء.. وبقدرة الفن على قلب الطاولة وتغيير المفاهيم النمطية كما حدث مع الرسامين الواقعيين الفرنسيين غوستاف كوربيه وجان فرانسوا ميليه حيث قدما لوحتين جداريتين في باريس عام ١٨٥٠، الجداريتان (كاسرو الحجارة) و(الزارع) ركزتا على تسليط الضوء على حياة الطبقة العاملة الفقيرة وأثارتا انقلاباً على سمة الفنون البصرية آنذاك من لوحات لأجساد ممشوقة بيضاء بأقصى معايير الجمال.
وقد أثارت الجداريتان حفيظة النقاد من مؤيدي الفن الأكاديمي ورفضوا فكرة تخصيص مساحات كبيرة لنقل واقع أشخاص بلا أهمية.. فيما تبنّى العديد من الرسامين نظرية إنّ وظيفة الفن التعبير عن قضايا المجتمع حتى وإن أزعجت تلك اللوحات الطبقات الثرية.
وما بين (سوق الخضار على ضوء الشموع وخبز المسيح المكسور وغورنيكا وكاسرو الحجارة والزارع..) وغيرها من اللوحات التي تركت عظيم الأثر على أكاديميات الفنون والذوق العام، وما بين جمالية الصورة ووظيفة الفن كان الهدف الأسمى للفنون التي تحاكي الحياة.