كل الإحصاءات والدراسات التي كانت تتناول “القراءة” و”القارئ” العربي، كانت تأتي لغير مصلحتها ومصلحته، فتارة يُحصى عدد الإصدارات السنوي، وتارة تُقسَم هذه الإصدارات على عديد السكان، فيكون النصيب أقلَّ من قليل لكل فرد! وحين يُتناوَل الموضوع في دراسة أو ندوة تُذكر الأمية، وتقصير البيئة التعليمية في البيت والمدرسة، ثم غلاء الكتب وعدم منافستها للحاجات الحياتية، فإذ بالواقع يدحض هذه الذريعة لأنّ العائلة متواضعة الدّخْل لم تجد غضاضة في شراء الأجهزة الذكية لأبنائها الذين يتعلمون بمبالغ تفوق قدراتهم التي كانوا يشكون منها ويعتبرونها حجّة قاطعة لتجنّب اقتناء الكتب (عائلة باعت إرثاً ودفعت ثمن الكومبيوتر ملايين الليرات من أجل دراسة ابنها، وهذه الملايين تشتري مكتبة كاملة تملأ بيتاً برفوف لا تحصى)!
الرضى عن دخول الملايين إلى عالم الثقافة والمعرفة باستخدام التكنولوجيا العصرية إلى أين يُفضي، هل اتّسعت، هل تجذّرت، هل رفعت الوعي؟ هل ردمت الفوالق التي كانت تبدو جلية بين المؤسسات والأفراد؟ باتت أسماء الكتَّاب الكبار معروفة ومتداولة نعم! ومقتطفات الحكمة عبر كل العصور، تنساب بين المنشورات الغزيرة، وعيون المؤلّفات تخرج من ثَبْت التاريخ إلى الأبصار، وفي “لعبة” الانتشار هذه، خُصّصت صفحات لفلاسفة وصوفيين وأخرى لشعراء، وثالثة لفترات تاريخية، بحيث أنتجت هي الأخرى مادةً تتيح لمختص في علم الاجتماع مثلاً أن يتابعها عبر “متابعيها” لقراءة تأثيرها على الجموع، ما دامت هذه الدراسات تلتقي جميعها حول الوعي البشري، وحتى في التأمل غير الأكاديمي، سنجد إجابات غير سارّة على هذا الواقع ليس في المجتمع العربي فحسب، بل في المجتمعات عموماً لأن نوعية القراءة وطريقتها، باتت بلا تقاليد خلقها الكِتاب منذ فجر التدوين وحتى “الملفّات” التي تحتوي على كتاب كامل، صارت تُقرأ بدوافع الدعاية التي توقِع في الفخ بمنتهى النعومة التي لا تُجاري التوجيه في الماضي من قِبَل “معلم” تذوق المعرفة وقطف ثمارها وقدم تجربته لمن سأله عن كتاب يود أن يطالعه!
يسمونه عصر “انفجار” المعلومات! هذا منطقي إذا رصدنا المتوفّر من المعلومات عبر منصات البحث، لكن إلامَ وصل هذا الانفجار، وما آثاره في الجموع؟ أتذكر في الدراما الإذاعية أنَّ الممثل كان يؤدي دوره بتوجيه المخرج وحين يصل إلى مكان في النص أشار فيه الكاتب بكلمة “لغَط” كان يطلب من كل الممثلين أن يتحدّثوا جماعةً بأي شيء حتى يأخذ المؤثّر المقنع للمستمع في السوق أو الحي، وأحسب أن ثقافة التكنولوجيا، لم تتعدّ هذا اللغط الذي تشارك فيه كل الأصوات، لكنها لا تنبئ بشيء واضح أو محدد!
نهلة سوسو
123 المشاركات