نديم محمد
«في موكبِ الفجرِ الطليق، يسيرُ حراً كاليقين
وأمامهُ ثورانِ شاخا في العراك مع السنين»
ربما ثمة أجيال كثيرة لا تزالُ تتذكرُ هذا المطلع لقصيدة «الفلاح» للشاعر السوري نديم محمد (1909-1994) في منهاج «المحفوظات»» لطلاب الصفوف الإعدادية في زمنٍ مضى.
ذلك الشاعر الذي مرّت مؤخراً ذكرى وفاته الثلاثين وسط صمتٍ مطبق؛ شاعرٌ احتار في تصنيفه النقاد، فهو في حياته التي عاشها مترعة طولاً وعرضاً وارتفاعاً وعزلة ومرضاً وغنى وفقراً ووحدةً وتمرداً.. مرة يبدو أقرب للشعراء الصعاليك، ومرة يبدو شاعراً مهموماً يحملُ قضيةً وملتزماً هموماً مجتمعية وقومية، ومرةً يكون شاعراً متألماً عاشقاً وحزيناً.. هذا الشاعرُ الذي وجدَ أهله من «تركاته»– رغم كل هذه الحياة الحافلة – هذين البيتين:
«اليومَ أدركني الملالُ والموتُ يصرخُ تعالَ
أنا لم أعش ليُقال ماتَ ولم أكن ليقالَ زالَ»ّ
وهو لأمرٌ مُدهش في حياة هذا الرجل، فرغم أنه عاشَ كل هذا العمر المديد– ستّاً وثمانين سنة- شهد خلالها مُعظم أحداث القرن العشرين، من احتلالات وانقلابات واستقلال وحروب؛ ينتهي به الأمرُ إلى هذا الشعور العدمي، والنظرة الفلسفية العميقة للموت والحياة، وقد تساوى لديه الوجود والعدم.
يُشكّل هذا الشاعر أحد رؤوس مثلث الإبداع الشعري في ريف جبلة كما صار يُعرف: عين شقاق– نديم محمد، السلاطة- بدوي الجبل، وقصابين- أدونيس، هو كذلك آخر الشعراء الرومانسيين الذين أغلقوا دائرة التجديد في الشعر الموزون مع الكلاسيكية الجديدة التي انتهت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، لتأخذ قصيدة التفعيلة دورها كبوابة عبور للقصيدة الحديثة، وأقصدُ بذلك قصيدةَ النثر التي أخذتْ مكانتها مطمئنةً في المشهد الشعري، تاركةً، وبلا مُبالاة، الناظمين من الشعر المُقفى يلهثون خلف القوافي.
«وحفنة غيدٍ ذرذرتها يدُ المسا
إلى جدولٍ، فيه الشعاعُ يسيلُ
عذارى نشاوى، مكثراتٍ من الهوى
يملن مع الأحلام كيف تميلُ».
ولنديم عشرات المجلدات الشعرية غير (الآلام) التي هي أجزاءٌ ثلاثة، صدرت سنة 1953، وأعيد طباعتها سنة 1985، ولديه كذلك: “فراشاتٌ وعناكب، آفاق، فرعون، ألوان، رفاقٌ يمضون، أشواكٌ ناعمة، شاعرٌ وصومعة..”، وعشرات الأعمال الشعرية غير المنشورة، ولقد أحيى شعره بتلك الحياة الرومانسية الشفيفة في القصيدة متأثراً إلى حدٍّ ما بالرومانسية الألمانية و(آلام) “أندريه جيد”.. رومانسيةٌ منجدلةٌ مع مفردات الطبيعة حتى لتبدو قصيدة نديم محمد أقرب إلى كاميرا لا تملُّ تصويراً من الجمال المنسكب في السفوح والروابي الريفية الدفاقة.
«غاباتنا المردُ الحسانُ، الخضرُ أعراسُ التلال
العاصراتُ زنودها من ريفنا حمرَ النصالِ
كم عطرت غدواتنا بالوحي في أفقِ الجمالِ
كم سهلت عيش العيال وفرجت كرب العيال».