“أصبوحة أدبية”

أصل المهرجانات الأدبية العربية، هو الاحتفاءُ بالشعر والقصيدة، هكذا يقول التاريخ من دون لبسٍ وتأويل حين يأتي على ذكر “سوق عكاظ” الذي كان مسرحاً للتباري الشعري وترسيم الشعراء الجدد، بعيداً عن دوره الاقتصادي الكبير في التبادل المادي ولمِّ القبائل قبيل الحج، لأن القصيدة، بضرورة وجودها، تحتاج إلى أن تتنفس لتنمو وتقوى وتنافس وتبقى، لذلك أوسعت لنفسها مكاناً حين النشاط البشري المتعدد، وإذا كانت الأسواق “تدرُس” فلا يبقى منها إلّا الأطلال والذكريات، فإنها من دون شك تترك تقاليدها عميقاً في وجدان أي أمة، لأن التنافس الشعري بقي كما كان، وصارت مجالس الخلفاء والحكام، هي “السوق” الذي يُثمَّن فيه الشاعر ويُعطى مكانة من قبل “النقاد” وبعد زمن “الأبراج العاجية” الذي طوى هو الآخر مجالس الشعر والطرب، وزوال أبهة القصور “الثقافية” عثر الأدباء على وسيلة تجمعهم وتحمي ذلك “الرحيق” المتجمع في كؤوس عزلتهم والدَّوْر الذي وجدوا أنفسهم أصحاباً له في المجتمع، فكان هناك ما يسمى بالصالونات الأدبية (كلمة صالون أجنبية والتقليد بذاته أجنبي) التي أعطت روّادَها عبر لقاءاتهم الدورية، شيئاً من الرضى وعدم الإحساس باليباس، وعلى هوامشها كانت “الروابط” القلمية بأسمائها الأدبية المتنوعة!
نشوء المؤسسات الرسمية المعاصرة، مازال يحمل في بنيته بعض التقاليد التي رسخها الأدب بطريقته عبر التاريخ! فهناك: “الأسواق”: المهرجانات السنوية تحت عناوين عامة (مناسبات وطنية أو قومية) وهناك العناوين الخاصة (أديب أو مفكر) أيضاً، وهناك “معلّقات” بجوائز الدولة التقديرية أو التشجيعية، وكذلك “المجالس الدورية” تحت مظلة “الأمسيات” حتى بدأتُ أرى تكراراً: “أصبوحة”، تُقام تحت سقف المراكز الثقافية خاصة في المدن الصغيرة وهي على الأغلب “أصبوحات شعرية” ربما لأن الشعر يميل إلى الأداء “المنبري” وإلى الرشاقة الزمنية الخاطفة، وحسب تجربتي فإن الأماسي هي التي كانت شائعة، بحسب إيقاع الحياة العام من ارتباط بالعمل المنتج أو الوظيفة طوال أوقات النهار، قبل الخلوّ في المساء إلى قضايا الفكر والثقافة أما “الأصبوحة” فهي تقليد جديد ربما دخل حياتنا بعد “الحرب” التي خلخلت الكثير من “البنى” ودفعتنا قسراً إلى تجارب جديدة وخبرات لم نكن نعرفها!
في “الأصبوحات” نتمنى ألّا تكون اللقاءات مجرد مجاملات تزجية وقت فراغ، ولا بديلاً عن المرور في المقاهي لإمضاء الوقت مع أي عابر سبيل، فهذه الملتقيات يمكن البناء عليها، ولكن من أهلها حصراً، كي تبقى الثقافة بخير وهي مصباح نهاية النفق، الذي نبذل الكثير كي نبلغ منتهاه بأقل الخسائر الممكنة!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار