عن المُدهش في فهمه!!

اختلفت الروايات لمن ردّ الشاعر أبو تمّام (لماذا لا تفهم ما يُقال) عندما سأله أحدهم:” لماذا لا تقول ما يُفهم” فالبعض يذكر أبا سعيد الضرير واسمه أحمد بن أبي خالد البغدادي، وهو من علماء اللغة في العصر العباسي الأول، أشهر كتبه (المعاني والنوادر)، والبعض الآخر يتحدث عن الفيلسوف الكندي.
ويُحكى أيضاً عن سجال آخر حول شعر أبي تمام؛ عندما سمعَ أعرابيٌّ قصيدته في مديح خالد بن يزيد الشيباني، والتي يورد في مطلعها:
طَلَلَ الجَميعِ، لقدْ عفَوْتَ حميدا
وكفى على رزئي بذاك شهيدا
دِمَنٌ كأنَّ البَيْنَ أصبح طالباً
دمناً لدى آرامها وحقودا
وعندما سُئل الإعرابي عن رأيه في هذا الشعر؛ أجاب: إمّا أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وإما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه!
وإلى اليوم لا يزال الكثيرون ينظرون إلى أن الشاعر أبا تمام قد أفحم أبا سعيد اللغوي، أو الفيلسوف الكندي عندما قال له “لماذا لا تفهم ما يُقال؟” وذلك في رده على سؤال الأول :”لماذا لا تقول ما يُفهم” أعتقد علينا ألّا نتسرّع كما تسرّع الأقدمون وأعجبوا بالرد السريع لأبي تمام، وإذا كان الكندي أو أبو سعيد؛ تحاشيا التعقيب، فأعتقد لأن السؤال كان كافياً ومفحماً للشاعر، لأن الرجل حَسِب أنه قدم موقفاً نقدياً حاسماً، ومن ثم هو لا يريد السجال والمهاترات بعد ذلك السؤال الناقد.!
الكثيرون اليوم يرون أن الميل إلى التجريد والذهنية، وصل إلى السقف، وقد استنفد كل جمالياته، حتى صارت كل منهما، وأحياناً هما معاً، يعطيان إشارات للمبدع المفلس، أو يؤشران إليه، ذلك أن هذا الميل باتجاه “التغميض” غالباً ما بدأ في نتاج العالم العربي من ” السقف”، ثم بدأ انحداره باتجاه القاع، وليس العكس، وليس لكونه تجريداً محتماً عليه السقوط.. التجريد هو أرقى حالات الذهنية، ولكن الأزمة تكمن في فهم التعاطي مع التجريد، وتأتي من مسألة الاعتراف بثنائية جوهر– شكل، المتصارعة بإقصائها لمفهوم تجريد جوهر الأشياء، وتركيزها على تجريد الشكل، الأمر الذي صار عبثياً، وذلك لأن الجوهر – المحتوى لا يوجد خارج الشكل، والعبثية تمثلت أكثر في اختصار الأشياء المحسوسة والواقعية إلى رموز وإشارات، وحركات لونية، وكان الأولى هنا، هو العكس تماماً، أي تقريب الأمور والأشياء غير المحسوسة لتصير محسوسة، الأمر الذي أوقعنا في التغريب، والمتاهة، حتى مع الأشياء من حولنا، فليس اليوم أسهل من تقديم لوحة تجريدية، أو كتابة قصيدة ذهنية، ثم كان هذا “العيش اللذيذ” في الماورائيات، أو الميتافيزيقيا.
وتكمن الصعوبة عند مبدع اليوم في هذه الهوة بينه وبين الأشياء من حوله، فهو يتحدث عن – الشجاعة المختلف على تعريفها- صفحات وصفحات، لكنه يعجز عن الكتابة عن الكرسي الذي يجلس عليه -على سبيل المثال- بشيءٍ من الإبداع الحقيقي.
وللشاعر عبد القادر الحصني رأي لافت في هذا المجال إذ يقول: الإدهاش باللامفهوم في الشعر سهل، وهو خدعة تنطلي، أو قابلة للتداول بين (المثقفين)، أمّا العامّة فمطلبهم أصعب؛ فهم يريدون مفهوماً ويدهشهم..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار