مسلسل “ستيلتو”.. هل نحن أمام “استعمار درامي”؟
تشرين- بديع صنيج:
لعلّ أجمل نقد وُجِّه إلى مسلسل “ستيلتو” الذي بدأت قناة MBC ومنصة شاهد عرضه منذ أيلول الماضي، هو الرأي القائل إنه كان ينبغي ألّا يُنتَج من الأساس، ولاسيما أن العمل التركي المأخوذ عنه “جرائم صغيرة” سبق له أن دُبْلِجَ إلى العربية وحظي بنسب متابعة كبيرة.
هذا يعني أن القصة، على سذاجتها، والشخصيات الرئيسة والفرعية، ماضيها وحاضرها، غموضها ووضوحها، والخطوط الدرامية ومنعطفاتها وتوتراتها، والحبكة وتعقُّدها وانفلاتها، وكل ما له علاقة بالسيناريو مكشوف تماماً، وتالياً فإن عنصر التشويق في هذا المسلسل الطويل، الذي يتجاوز التسعين حلقة في نسخته العربية، فاقد الأهمية، وكأن المُشاهد بعد أن تابع العمل التركي مدبلجاً، يعود لمتابعته مرة أخرى بممثلين سوريين ولبنانيين.
يزيد من هذا الإحساس عدم اجتهاد كاتبة القصة لبنى مشلح، ومعدة السيناريو مي حايك، وإبقائهما حتى على الحوارات بترجمتها الحرفية، وكأنهما أخذتا نص الدوبلاج ووضعتا اسمهما عليه، وعلى هذه الحال فإننا كنا نتمنى لو تمَّت “خيانة النَّص” بتبييئه الصحيح مثلاً، أو على الأقل تبديل بعض الأحداث وإضافة شخصيات مؤثرة، بدل الرُّكون إلى “اللَّعي” والثرثرة الفائضة عن الحاجة التي لا تصنع دراما بقدر ما تُشوِّهها.
ربَّما ساهمت الرومانسية الفاقعة وما تحويه من إثارة وخيانات مديدة ومناكفات بين بطلات العمل، وكيدهنّ، إلى جانب الدراما التي دارت حول الجريمة في البداية، بتحقيق نسب متابعة عالية للمسلسل، لكن ذلك لا ينفي سقوطه نقدياً في كثير من مفاصله، وعلى رأسها السيناريو، والذي جاء في ستيلتو أشبه بـ”قيل عن قال”، فحتى المسلسل بنسخته التركية مقتبس عن المسلسل الأميركي “أكاذيب صغيرة كبيرة” (Big Little Lies)، المأخوذ بدوره عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الأسترالية ليان موريارتي.
وإلى جانب الشطط في مفاصل النص، وابتعاده عن الواقعية، جاءت رؤية المخرج التركي إندر إيمير لتعزز الخلل بخلل أكبر منه، إذ جعل من اسطنبول مكاناً لتصوير عمله مع إن الأحداث تقع في بيروت، والجميع يعرف الفرق الشاسع بين المدينتين، بصرياً على الأقل، كما أنه بالغ، كعادة المخرجين الأتراك، في رفاهية الصورة ومحتوياتها، فالديكورات آخر طرز، والممثلون كعارضي أزياء، وإدارة الكاميرا والإضاءة وغيرها أشبه بتلك التي نراها في الفيديو كليبات، بحيث يشعر المتابع أنه أمام واقع مُجَمَّل، والأهم أنه غير حقيقي، ما ينعكس على تعاطفه مع الأحداث والشخصيات، وتصديقه لما يحصل.
فبدل أن يجتمع أبطال العمل في مُجمَّع سكني ضمن شارع الحمرا البيروتي مثلاً، فإنهم يلتقون في “دريم هيلز كومباوند”، بحيث إن التَّرَف مبالغ فيه، وصحيح أن ذلك بات سمةً عامة في الأعمال الدرامية التي تُقلِّد المسلسلات التركية في كل شيء، لكنه يُفقد الدراما السورية خصوصيتها وحميميتها التي شكَّلت هويتها على مدى عقود، لدرجة تستغرب من نجومها الرضوخ لهذه الهوية المستعارة، وكأننا أمام حالة من الاستعمار الدرامي الذي يفرض قوانينه على الجميع من دون حساب، لكن من الضروري هنا أن تبرز الحسابات النقدية التي لا تُهادن بأسئلتها التي لا تنتهي.
من مثل: لماذا نبني على قصة ساذجة بكل تفاصيلها هذا الكمّ من الهراء الدرامي الذي لا يغني ولا يسمن؟ أم إن مناقشة المسلسل لمشكلة الملل والروتين الذي يصيب الأبطال بحُكْم بَطَرِهم يفرض نقل ذاك الإحساس إلى المشاهدين “البطرانين” بدورهم لامتلاكهم الوقت لمتابعة تسعين حلقة؟ وما الجدوى من وراء حشو السرد بتفاصيل لا تهم قضية التحقيق التي يتمركز حولها العمل، أم إنّ صناعه يريدون لنا أن نعرف بالتفصيل المُمِل وعلى مبدأ “صبحيات الجارات” كيف يتحول ذاك الملل إلى مشاكل كبيرة بعد تلك الحفلة الضخمة بحيث تحولت حياة كل من شخصيات المسلسل إلى بركان من الجرائم؟ وكيف نبرر هَلْهَلَة الصراعات وتراخي مفاصلها بهذا الشكل المقرف؟
وبالانتقال إلى بعض المغازي الدرامية، ما الهدف من وراء شيطنة فلك (ديمة قندلفت) الزوجة التي تتعرض للخيانة، مع تبرير نزوات زوجها، فضلاً عن تصويرها كامرأة شريرة تستحق كل ما يجري لها، بينما صديقتها وعشيقة زوجها الدكتورة ألمى (كاريس بشار) تبدو كامرأة مثالية من الجمهورية الفاضلة؟ وما الداعي لخلخلة شخصية ألمى القوية والمستقلة بذاتها، عندما ترضخ لمشاعرها في الحب المحرَّم، ما يعيدها إلى امرأة نموذجية مُقيَّدة في المجتمع الذكوري؟
ثم ما هذه الفانتازيا في غرفة التحقيق، التي تجعل منها مكاناً للاستجمام والاسترخاء، ولا ينقصها سوى غرفة ساونا، وخبير مساج، إذ بدل أن تكون الأجواء فيها متوترة والخوف هو المسيطر، والترقب سيد الموقف، رأينا الحوارات مسترسلة إلى الآخر، على عكس أن تكون مقتضبة وتسعى للوصول إلى نقاط واضحة وإجابات عن أسئلة محددة، إضافة إلى السخرية بين المحقق الذكر من المحققة الأنثى التي تحفز الشهود على رواية تفاصيل غير مهمة بالمرة، وكأنها في مكان للتسلية وليس لاقتناص الحقائق.
طبعاً كل تلك السقطات الدرامية لا تنفي تميُّز أداء الممثلين السوريين واللبنانيين على حدٍّ سواء، وتماهيهم مع شخصياتهم، وقدرتهم على التُّلوُّن بما تفرضه المواقف المختلفة، لكنه أشبه بوضع زنابق بيضاء يانعة في مزبلة، ستلوِّثهم عاجلاً أم آجلاً، وستُخفِّف من ألقهم، لكنها قوانين السُّوق الدرامي التي تسوق وراءها المُهادِنين بهويتهم
والراضخين لاستبداد الاستعمار الدرامي بأشكاله المختلفة.