(زوايا) مرح صالح التي تنفرج للتاريخ والأسطورة والفيزياء
تشرين- راوية زاهر:
(زوايا) هي مجموعة القصص القصيرة جداً الصادرة عن دار دلمون بدمشق، للكاتبة مرح صالح التي ضربت لنا موعداً مع التاريخ والأساطير، ومع أول مشرعي القوانين وخطوط القياس، مع ربات الجمال والخصب، مع أبطال الروايات اليونانية الغارقة في الميثولوجيا والأنطولوجيا والنستالوجيا، مع ديكارت وهيغل وحمورابي، ومع عشق وطن لم ينقطع حبله السري الموصول بالروح والذاكرة، بالحاضر وتفاصيل الحياة والموت؛ إذ تنوعت القصص فأوقعتنا أسارى قضاياه المعلقة ووجعه المسفوح.
(زوايا).. عنوان موفق لنصوص كفيلة بحشر قرائها في زوايا البحث والتقصي، فالكم الهائل من التناص والتضمين لابدّ أن يؤتي أكله.. ففي القصص تركيز على الحكائية التاريخية، وقد برز فيها ضرورة القبض على الأفكار وسر كنهها لتوقعنا النهايات في خنادق الرؤوس المقطوعة أو الأجساد المولودة من دون رأس، وذلك كوقوف ممنهج أمام حالة الرفض لأي فكر يغير من جينات الواقع القائم على شنق الأفكار في لجة الرؤوس.. كما برزت هذه الحالة المتكررة في نصوص عدة من قبيل (مترولوجيا.. سريرة.. إباحة.. عرائس).
نص (ميترولوجيا): “حين ثقل رأسي، وضعوه على الميزان، قهقهت ريشة الحقيقة، اعترض (هايزنبرغ) بينما (عمعموت) يلتهم أفكاري”.
وضعتنا الكاتبة أمام عنوان تتحدث فيه عن علم القياس، ونسبة الخطأ المترتبة على هذه العملية، فأخضعت بذلك الأفكار التي اجتاحت الرأس وأثقتله للقياس بدقة ولتجربة دقيقة ليتهكم العالم الفيزيائي هايزنبرغ بالنتيجة متيمناً بمبدئه وهو عدم التأكد.. فتقود الحيرة كل شظايا العقل ويبدأ عمعموت مهمته في أكل الموتى والتي بات الرأس ينضح ببقايا جثثها من أفكار وغيرها.
وأما نصوص الكاتبة الغارقة بالأسطورة، فيستوقفنا استخدامها الكبير لتقنية التناص، وتحيل بذلك نصوصها إلى نصوص أخرى لها عبرة ورمزية باذخة تخدم نصها.. وقد بلغ التناص ذروته في نصوص (إباحة، ضهي، تباك، سوسيولوجيا، عواقب) إذ أحالنا نص (عواقب) إلى قصص الأنبياء، وغار حراء وقوم عاد ونوح، وقد وفّقت الكاتبة كثيراً في استخدام هذه التقنية، فأخذتنا إلى تلك اللعبة المطاطية مع التاريخ والنص الديني الموضوع والمنقول.
وعند نص (براءة) القابض روح القصة القصيرة بامتياز سنتوقف
النص: “كنّوني بالعاهة حين فقدت إبهامي، اختلط الفقر بالجهل، ضاعت الكرامة، كنتُ الوحيد الذي لم يبصم”.
نص متفرد بعنوان مميز، براءة: العتبة النصية الأولى كعنوان، وما على القارئ إلّا تخطيها والوقوف على ما تحمله من وظيفة تأويلية تقودنا إلى الحدث، فالبراءة بكل تفصيل من حروفها تحمل حكائية والحصول عليها كحدث إستراتيجي يحمل بعداً خاصاً وتحول حوله قضية ما.. وكما للقضية مفردات من قبيل تهمة، محاكمة، شهود، وقوف أمام القضاة.. المتهم بريء حتى تثبت إدانته؛ فالحدث كان موحياً ولم يصرّح به، والنص بحكم حكائيته حجز لنفسه مكانة مرموقة في عالم القصة القصيرة جداً.
وينبغي التأكيد على أن هذا النوع الوجيزي، تسير أحداثه دائماً في إيقاع سريع، لذا نلاحظ استنادته إلى نهاية مفاجئة ومباغتة وغير نمطية؛ وهذا ما جعل النهاية صادمة، فالكاتبة استخدمت اللعبة المطاطية اللينة والتي قد تطول وقد تقصر وفق منظور الكاتبة للشخصية ذاتها.. النص امتاز بوضوحه وعمقه ودقته ناهيك بتكثيفه الواضح للغة.. أما عن مفارقته فقد جرت بشكلٍ تلقائي عفوي أرادت الكاتبة إيصال رسالة غير معلنة بين الحروف وما ذلك إلّا لجوء إلى ثنائية درامية تُظهر فيها الكاتبة عكس ما تعني.. فالعاهة المتمثلة بالإبهام المقطوع ما هو إلّا رمز للفقر النفسي الذي يصيب المجتمع، أو أي حالة دخيلة تخالف برستيج مجتمعات النفاق.. وفي خضم وجع أصاب الوطن في جنازة مهيبة فقراً وحرباً وجوعاً، وصك الاعتراف كان جاهزاً ممهوراً ببصمة القوم استطاعت الشخصية العاهة النجاة من الذل بأعجوبة الحبر، فلا إبهام لديها لتوثق بخطوطه حبر هذه الجريمة النكراء..أما الحالة: فكانت حالة الوعي لدى الكاتبة بعمق المأساة، فلم تفصّل ولم تخمد الاحتمالات وصولاً إلى الخاتمة، رابطة الحدث بتقاطع مخزون الذاكرة عند المتلقي مع ما ترغب الكاتبة في إيصاله إليه.. وعند الخاتمة: وهي بيت قصيد النص الوجيزي وغايته، وأهم عناصره على الإطلاق لما تحمله من توهج وتكثيف وإرباك مفاجئ للقارئ..
الخاتمة كانت مذهلة مباغتة ولاذعة.. فالإبهام الذي كان عاهة صار رمزاً للكرامة التي سحقها الجميع بأصابع أكفهم الكاملة.
لغة الكاتبة باذخة، بعيدة عن الحشو والتفصيل، ولكل لفظة طاقات معنوية هائلة مكثفة حدّ الانفجار، وذلك بما تحمله بجوهرها لا بظاهرها، ووظيفتها في ترتيب البنى التركيبية وربط الحسي بالمعنوي، وقد تميزت بقصر التراكيب وحدة تكثيفها من خلال الربط بين التضاد والتوازي، والثابت والمتحول، واعتماد كم لغوي أسطوري يعود إلى التاريخ اليوناني بتراجيدية رواياته ومسرحه بمأساته وملهاته.. أضف إلى استنادها إلى معجم لغوي علميّ متمثلاً بالقياس والتقويم وعلم الحساب.
كما وُسمت نصوص المجموعة بالحكائية والجرأة والتكثيف وعمق المعنى، وتلونت ملامح النصوص بالإضمار والتناص الفاخر، وبأفكار متجددة، وتنوعات قصيّة مذهلة تستوقف أي قارىء حتى إنها ألبست المجموعة ثوبها الوثير.