“بخيتة” 

حدثتْ فعلاً؛ هذا سببٌ أوّل يجعل من رواية “بخيتة” للكاتبة الفرنسية فيرونيك أولمي، ترجمة آلاء أبو زرار، مُذهلة، فهي لا تقف فقط عند حكاية امرأةٍ عاشت العبودية والعنصرية، واختبرت روحها وجسدها أشكالاً وأساليب منوّعة من الوحشية مارسها البشر تجاه بعضهم منذ الأزل، بل تُوثّق أيضاً أحداثاٍ تاريخية وشخصياتٍ حقيقية سياسية ودينية بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في السودان وإيطاليا على وجه الخصوص، وفي عدة دول كانت جزءاً من الحربين العالميتين الأولى والثانية.

تُختطف “بخيتة” من قريتها أولغوسا في إقليم دارفور عام 1869، لتصبح عبدة في السابعة من عمرها، وسيكون عليها مراراً القفز والركض وإظهار أسنانها وسلامة جسدها، حتى يطمئن مالكوها الجدد إلى إمكانية الاستفادة منها، وخلال مسيرٍ طويل ستكون جزءاً من مآسٍ لا تعد، سترى أمهاتٍ وفتياتٍ يُغتصبن ويُرمين، وأخرياتٍ توضع السلاسل في أعناقهن وأرجلهن، ورجالاً يموتون جوعاً وطعناً وجَلداً، وصبياناً يُباعون ويُشترون قبل أن يعرفوا المشي والكلام، حتى إنها ستكون موضع تجربة لسيدٍ شاب، يريد أن يتزوج، وستكون أيضاً مكان قردٍ، يُصدر أصواتاً غريبة وينحني ويقفز، تسليةً للأسياد وضيوفهم.

ومع تنقلها بين البيوت والقصور، سيتحتم عليها مساعدة سيداتٍ في ارتداء ثيابهن، شرط ألا تمسهن، ولأن الأمر غير قابل للتطبيق، ستُصفع وتُجلد وتجوع، إلى أن ينتهي بها الحال بين يدي واشمة، تحفر جسدها بالسكاكين والإبر، لترسم شيئاً ما على جسدها الأسود، ثم تُملأ الحفر بالصباغ والملح، ولا ينتهي الأمر هنا، لأن العبدة السوداء ستُسمى بالشيطان والموت رغم انتقالها إلى بلدانٍ ترفض العبودية، وستسمع شتائم وتعاويذ وصراخ، بمجرد رؤية وجهها الأسود، كما ستبقى حتى بعد نيلها حريتها والتحاقها بخدمة الكنيسة، مثار انبهار وتعجّب وتكهنات، الكل يرغب بتحسس وجهها ويديها، والاطمئنان إلى أنه لن يتسخ أو يمسخ بسببها، ومن المؤلم الذي ستحكي به “بخيتة” لاحقاً حين تبدأ الكنيسة بكتابة قصة حياتها، أن المسؤولة عن التنظيف سترفض دائماً تبديل الشراشف في غرفتها.

“بخيتة” هو الاسم الذي يُطلقه الخاطفون الأوائل على الطفلة التي لن تتذكر اسمها الحقيقي أبداً، ومعناه المحظوظة الناجية من الموت، وبعد معاناةٍ طويلة وأسماء عديدة تُطلق عليها “جيوزيفا، مارغريتا، فورتومانا، ماريا، جيوزيبينا بخيتة”، أعلنها البابا يوحنا بولس الثانى طوباويةً عام 1992، ثم قديسةً عام 2000، لتكون القديسة السودانية الأولى.

الرواية صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن المشروع الوطني للترجمة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار