القفزُ على حبال الرواية والقصة كحقلٍ للتجريب والنوم في عسل الشعر
تشرين- علي الرّاعي:
شيءٌ ما، يشدُّ المبدع في العالم العربي صوب الرواية، وكأنها الجنس الإبداعي الأهمّ الذي على الكاتب أن يُسجل توقيعه عليه، ليصير في خانة الكاتب – المكتمل ربما..!! ربما من هنا نفهم السر، وراء هذا «التوسل» صوب الرواية، ومن هنا نفهم اللغز وراء عدم الإخلاص لكل من القصيدة، والقصة القصيرة، والأخيرة التي طالما كانت، أو شكلت الإرهاصات الأولى لكتابة الرواية، ليس في سورية فقط، بل وفي العالم العربي، وهذا ما اعترف به، وصرّح به الكثير ممن يصرُّ على كتابة الرواية، حتى وإن كان مستوى نتاجه في الرواية أقل من المستوى الذي كان يكتب به القصيدة، أو القصة القصيرة..!
من الجهات الست
البعض «فعلها» مرةً واحدة، والبعض الآخر كررها مرتين، ربما بالاتكاء على نجاح وصدى التجربة الأولى، وبينما جاءت عند آخرين كنوع من الاستراحة، أو محطة في مسيرة طويلة في مجال إبداعي معين، فإنها جاءت لدى البعض الآخر كتنويع على التجربة الإبداعية التي شرّع الكاتب قلمه خلالها، وشنّ هجومه الكتابي في الاتجاهات كلها، وهنا على الأغلب بقي في المستوى البائس في هذه التنويعات كلها.!!
وحتى لا نبقى في التعميم، نذكر أن البدايات الأولى لعبد السلام العجيلي على سبيل المثال كانت قصصية، وشكلت القصة له حقل تجارب، ومجالاً للتمرين في كتابة الرواية التي استقر في تفاصيلها الطويلة حتى النهاية، وقلة من كتب الرواية مباشرة من دون المرور بجنس إبداعي معين..! مع ذلك، لابدّ من الإشارة إلى تجربتين سوريتين لافتتين في هذا المجال، وهما خليل صويلح، وأحمد يوسف داؤود اللذين قدما للرواية من خلفية شعرية، وإذا كانت تلك «الخلفية» لم تحقق الحضور الكافي – كشعراء – في المشهد الثقافي السوري، فقد حققا في مجال الرواية حضوراً كبيراً حتى باتا من أهم كُتّابها، أو على الأقل هم اليوم من الصف الأول من رواة سورية، بينما بقيت التجارب الشعرية لكل من: انتصار سليمان، عمر قدور، فاديا الخشن، وعائشة الأرناؤوط على سبيل المثال، – ربما- أهم بكثير مما قدموه في الرواية، ومن وجهة نظري الشخصية، فإن ما قدمته أنيسة عبود في مجال القصة ربما يوازي ما قدمته في مجال الرواية، والأمر ذاته ينطبق على الأديبة فائزة الداؤود.
السوق الرائجة
«فالسوق» اليوم هو سوق الرواية، ولا حديث البتة عن القصة إلا على استحياء.. حتى أن هناك من يُجاهر أن القصة لم تكن لديه سوى أنها «حجة » لكتابة الرواية.. أحد الروائيين يذكر بالحرف: إن كتابته للقصة لم تكن سوى فشّة خلق واستراحة، وكانت «كروكي» للرواية، كما أن قصته تحمل نفساً روائياً، بل هو يعترف بكثير من الخجل أنه كتب قصة، ويؤكد أيضاً أن معظم الروائيين الذين كتبوا القصة كانوا فاشلين فيها، ومثاله في ذلك نجيب محفوظ فيما كتب من قصة. ويعدّ الأديب ياسين رفاعية أن القصة لدى عبد السلام العجيلي كانت تمريناً على الرواية، فقد كان يطور القصة من القصيرة إلى الأطول قليلاً إلى القصة الطويلة ثم أخيراً إلى الرواية.
بينما يذكر الروائي جمال الغيطاني في ذات حوار لي معه: لا أعدّ كتابة القصة حجة أو معبراً للرواية، بل هي لحن ثانوي، أو مجموعات ألحان ثانوية تبشر بلحنٍ أساسي قادم، ويضيف: شخصياً لم أكن أدعي هذا الأمر، فمثلاً أنا مهووس بالكتابة عن موضوع السجن، وكتبت عنه قبل أن أدخله ولاسيما في قصص الستينيات كانت إرهاصات حقيقية للرواية، ورواية «الزيني بركات» على سبيل المثال سبقتها «ماكيت» من خمس قصص قصيرة كـ «هداية أهل الورق لبعض ما جرى في القشرة» وهذا اسم لسجن شنيع في العهد المملوكي، وقصص أخرى مثل «رسالة فتاة من الشمال» و«غريب الحديث والكلام عن علي بن الكسيح».. يفسر الغيطاني الأمر بالآتي: تلح عليك فكرة تُعبّر عنها بقصة قصيرة، غير أن التعبير هنا لا ينهي اهتمامك بها.. فيبدأ موضوع الرواية، ويضيف أعدّ نفسي روائياً في الأساس، واستعدادي لكتابة الرواية هو البداية، لكن نشر الرواية في ذلك الوقت كان صعباً، فكانت كتابة القصة القصيرة وسيلة للنشر.
ومع ذلك و..إذا كان الغيطاني يفعل الأمر عن غير وعي كما يذكر، أو كوسيلة للنشر، فإن الكثير من الروائيين كانت كتابة القصة لديهم تمرينات للانتقال للرواية، ويتم ذلك عن وعي، يذكر الناقد نضال الصالح في هذا المجال حول قص التسعينيات في سورية، إنه من السمات العامة المميزة للأصوات النسوية الجديدة في الكتابة في غير جنس أدبي، ولاسيما القصة والرواية أمثال: هيفاء بيطار وابتسام شاكوش، وأميمة الخش، ووصال سمير، وميّة الرحبي، ويمكن أن نضيف هنا أنيسة عبود، وفائزة الداؤود اللواتي سارعن جميعاً -على عادة معظم كتاب القصة القصيرة في سورية- إلى حقل الكتابة الروائية بعد مجموعة أو أكثر، فقدم عدد ما هو جدير بانتمائه إلى فن الرواية، وبدا نتاج معظمهن تمرينات في الجنس الروائي أكثر منه فناً روائياً.. رغم كل هذا الهوس بالكتابة الروائية، يحقّ لنا أن نتساءل: هل لدينا نصٌ روائي اليوم هو من القوة والإدهاش بما يُضاهي، أو يُعادل قصيدة لأدونيس، أو عادل محمود، أو صقر عليشي، أو محمد الماغوط، أو منذر المصري، أو نزيه أبو عفش، و..غيرهم الكثير..؟!!