فساد في التفاصيل!..

يخطئ من يظن أن الفساد ميدانه المال فقط، أو في عقد الصفقات وتنفيذ المشروعات، وعقد اللقاءات المشبوهة التي يغلّفها طابع المصلحة العامة، وخفايا أمورها مصالح شخصية تترجمها تبعات خطوات التنفيذ التي تظهر رائحة المنفعة في تفاصيل مخفية, وأخرى تظهر على الملأ, يحسبها أهل الكار تفاصيلَ صغيرة مسموحاً لها المرور من دون رقابة قانون, ولا حتى ضمير, وهذا الظن ومكونه لم يقتصرا على ما قلناه بل دخلا في أدق تفاصيل عملنا اليومية، وثقافة تحظى بمدارس وجامعات تدرّس هذا النمط من الفساد، والذي ساعدت في نموه الظروف المعيشية الصعبة، نتيجة الحرب والعقوبات الاقتصادية، لكن التفصيل الأهم يكمن في الأشخاص الذين ركبوا مشوار الحرب، والأزمات المتلاحقة وأصبحوا تجاراً وصنّاعاً وأصحاب مشروعات, يمتلكون رؤوس الأموال ويحكمون بها، ويتحكمون في تفصيلات كثيرة تتعلق بالأسواق وتأمين حاجاتها، من دون أن ننسى ما يشكّله هذا المكون من حجم تشعباته في مفاصل العمل اليومية في القطاعات الحكومية والخاصة، وهذا الأمر ليس وليد الساعة بل يعود لسنوات مضت، لكن الظروف الحالية كانت أرضاً خصبة لنموه وزيادة حجمه, واتساع رقعته في قطاعات مختلفة ولاسيما في المال والإنتاج والأسواق، بحيث يكاد لا يخلو قطاع إلّا وله نصيب وحقل “يرعى فيه” وهذا لا يحتاج كثيراً من الأدلة، فكيفما التفتَ تجده وتراه باسطاً ذراعيه لمزيد من الانتشار, وخاصة في مجال الروتين والإجراءات اليومية في العمل, وهذا أخطر أنواع الفساد لأنه حالة تقوم على ابتزاز الحاجة ومضايقة المواطنين بقصد الفائدة, وإلّا التعطيل في الواجهة، وهذه خطورة تحمل هدراً للجهد والوقت, وتشكل قيمة مالية تهدر بصورة يعتقد الكثير أنها تفصيل صغير، لكن بحساب المنطق والعقل والقيمة المالية فإنها مسألة توازي بفعلها حيتان الفساد في الأسواق والتجارة وغيرها من المجالات المحسوبة على أهل الفساد..
لذلك يخطئ من يحسب الفساد الأكبر فقط في الحيتان، فهناك فساد أخطر ينمو بسرعة, ومن يشجعه على النمو فصيلة الحيتان التي تؤمّن له الأسباب وديمومة الانتشار، والتي تبدأ من تفاصيل صغيرة لتصب عند أصحابها.
وفي رأينا معالجة الحيتان في هذه الظروف مسألة ليست مستحيلة, لكنها تحتاج مزيداً من الصبر والوقت, وهذا لا يمنع بدء المعالجة من التفاصيل الصغيرة، لأنها الذراع الأقوى لحيتان الفساد و”قصقصة” الأذرع هي البداية للخلاص من فساد خطير يعشش في أدق تفاصيل حياتنا اليومية, وأولى خطوات ذلك تبدأ بتحسين مستويات الدخل ومعيشة المواطن.

Issa.samy68@gmail.com

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار