“تظاهرة الأبواب المفتوحة”.. دعوة للرقص رغم الآلام!
جواد ديوب:
لا يكف طلاب قسم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية عن إدهاشنا في كل ما يقدمونه، سواء كاختبارات فردية أو مشاريع تخرج أو عروض متكاملة، فهم بإشراف متميز وحثيث من خبير الرقص المخضرم “معتز ملاطية لي” استطاعوا أن يمزجوا ماء أفكارهم مع تراب أجسادهم وعرقها وملحها ولحمها ودمها وهي تعاني مخاضاً بين الفكرة/ الخيال والفكرة/ الواقع، أو بين الأفكار كأطياف هائمة في فراغ الكون، والأفكار كأجسادٍ تتحرك في فضاء الخشبة وعليها وحولها وفي كواليسها!
لذلك أتت “تظاهرة الأبواب المفتوحة” بمناسبة يوم الرقص العالمي فسحةً للبهجة وسط مرارة العيش اليومي، وشرارةَ محبة اختبرناها مع الطلاب ومشرفيهم الذين قسموا التظاهرة إلى قسمين: الأول، ضمّ كلمة يوم الرقص العالمي، وورشة “لايف” لرقصاتٍ متنوعة تشارك فيها الحضور والطلاب حماسةَ ومتعة تحريك الأجساد والأرواح على إيقاعات الفرح الذي ملأ (قاعة المرايا في المعهد) مضاعفاً عدة مرات حيث كنا نرى انعكاساتِ ما نفعله على المرايا الكبيرة في الصالة فنبدو معها كمن يلعب دور الممثل والمخرج معاً.
في القسم الثاني: شاهدنا مقطع فيديو يظهر فيه خرّيجو السنوات السابقة والذين حملتهم أقدارهم ليصبحوا خارج سورية، وفيه كلٌّ منهم يؤدي رقصة تحية للقسم الذي انطلقوا منه نحو العالمية، ثم كانت الفقرات الراقصة على خشبة مسرح “سعد الله ونوس” في المعهد، أدّاها كامل طلاب القسم بإشراف أساتذتهم، ابتدأت بـ”طقس” تنويعات راقصة، وبعدها فقرة “باليه” من “كسّارة البندق” الشهيرة، مروراً بفقرة “منشق” من إشراف رهف الجابر ورقصها مع غزل حماده شاهدنا فيها ذكاءً في “الكريوغراف” وبراعة في الرقص وتجسيد ما يمكن فهمه على أنه صراعٌ بين الشخص ونفسه (أحالنا إلى هذا التأويل لباس الراقصتين المتشابه نسبياً) أو ربما الصراع بين فكرة القيد/ الغضب وفكرة الانعتاق أو الجري نحو أفقٍ مختلف.
لعلّ هذا العرض لم يحتوِ على “ثيمة” محددة أو فكرة رئيسة تدور حولها التصاميم الراقصة، بل جاء متنوعاً ومتبايناً في جمالياته وطزاجته، لكن فقرة “اتّسعتْ” التي أشرف عليها وأعاد إحياءها الأستاذ “حمود شباط” (وهي ربيرتوار من تصميم علاء كريميد) كانت متفرّدة لجهة التشكيلات التي ابتدعتها أجساد راقصات السنة الثانية بتمازجٍ رهيف مع إضاءةٍ جعلت من اصطفاف الراقصات لصق بعضهن وتأديتهن لحركات الأيدي والأرجل بشكل متتابع ومتكرر يبدون مثل نوتاتٍ متآلفة أحالتنا مع الموسيقا الغريبة والجديدة (لحن صوفي نسمع فيه جملة “كلّما اتّسعت الرؤيا؛ ضاقت العبارة”) نستشعر دورانَ الكون أمامنا وفينا، بل قد تحيلنا مع ضربات الأيادي على خشبة المسرح وإيقاع النغم المتصاعد إلى عبارة “أتَحسبُ أنّك جَرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى الكونُ الأكبر”، رغم التضاد أو التنافر الذي بدت عليه نبرة الصوت المُغنّى في التسجيل والتي تحيل إلى إيجابيةِ المعنى الكامن في جملة “ضاقت العبارة” كتكثيف فلسفي وجودي، وبين نبرة الراقصات وهنّ يلفظن العبارة ذاتها إنما بشيء من التبرُّمِ والحَنَقِ كدلالةٍ معاكسة تماماً للقول الأول.
وفيما أشرف الأستاذ نورس عثمان على فكرة كانت لتبدو جيدة لولا طولها المُضجِر، إذ بين “التكهن” (وهو اسم المقطوعة) الذي كانت ثلاث راقصات معصوبات العيون يتلمّسنه برفقة ثلاثة راقصين (جميعهم من طلاب السنة الثالثة) و”التكهّن” الذي نقوم به كمتفرجين، تاهت قليلاً فكرة “الرِبيرتوار”(وهي مقطوعة من تصميم الكريوغرافر العالمي أكرم خان) رغم الأداء المتصاعد والمشغول بعناية للراقصين، إذ برأينا إنّ زمنَ أي مقطوعة راقصة هو جزء لا يتجزأ من معناها، والتكثيف الزمني يضع المصمم والراقصين والمتفرجين أمام اختبارِ النفاذِ المباشر نحو الجوهريّ والأكثرِ أهمية في القطعة الراقصة! ورغم ذلك كان جزءٌ من التصميم مميزاً، فالعُصابات على عيون الراقصات مع العصيّ الثلاث في أيديهنّ أدت غرضها في جعلنا نتلمّس معهنّ طريقنا المعتم نحو فهمٍ مختلفٍ لما يدور حولنا، وجعلت الراقصين يتعاملون مع الراقصات تارةً بغضبِ غير المتفهّم، وتارةً باستخدام أجسادهم كعتبة مرور لهنّ نحو الأمام.
أما نهاية التظاهرة، فأتت مريحةً مع “رقصة زوربا” وموسيقاها المنعشة الشهيرة، حرّكت في الجمهور رغبةً في الرقص مرة ثانية وثالثة مع تصفيق وتحية لقسم الرقص وأساتذته الذين يتحفوننا بالجواهر رغم ظروف وشروط التدريب غير الجيدة في المعهد وقلّة عدد القاعات (قاعتان في أحسن الأحوال).