ضمن “أيام الثقافة السورية”.. معرضُ “الفخار السوري عبر العصور”… العودةُ إلى رحمِ البدايات!
تشرين- جواد ديوب:
نقرأُ في المَرويّات الدينية آياتٍ تثير في المتأمّل نوعاً من الرهبة، ففي القرآن الكريم: “إنّا خَلقنَاهُم مِن طينٍ لازبٍ” (سورة الصافّات) أي: مِن تُرابٍ ممزوج بالماء فصارَ طيناً لازِباً، ونجدُ: “خَلَقَ الإنسانَ مِن صَلْصَالٍ كَالفَخَّار” (سورة الرحمن) أي: خَلَقَ اللهُ آدمَ مِن صلصالٍ لأنّهُ مِنْ يُبْسِهِ -وإنْ لم يكن مطبوخاً بالنار- تُسمَعُ له صَلْصَلةٌ إذا حُرِّكَ أو نُقِرَ كما يُصلصِلُ الفخارُ/ الطينُ المشوي بالنار”!
تذكرتُ هذه الآيات الكريمة بعد زيارتي مؤخراً لمعرض بعنوان “الفخار السوري عبر العصور” والذي أقيم في المتحف الوطني بدمشق -ضمن فعاليات أيام الثقافة السورية 2024ـ ضمَّ قطعاً فخارية نادرة تعود لأربعة عصور مختلفة (ما قبل التاريخ، والشرق القديم، والعصور الكلاسيكية، إضافة إلى الفترة الإسلامية) بأشكال وألوان وأحجام مختلفة تبهر الناظرين وتوثّق بالمُشاهدة كيف أن سورية منبعٌ حضاريٌ عريقٌ ومستمرٌّ في الزمن.
فخارٌ منزليٌّ وتجاريّ!
وفي جولتي على المعرض وجدتُ لوحاتٍ تعريفية مرافقة لخزانات المعروضات الفخارية نقرأ في إحداها أنه: “مع الألف السابع قبل الميلاد تعددت أنواع الفخار في العصر الحجري الحديث حيث ظهر الفخار الغامق والمصقول وكذلك الفخار الخشن، وانتشرَ وأصبح للآنية الفخارية استخدامات واسعة في الطهي وحفظ الطعام وتخزينه، ثم مع نهاية الألفية السابعة أصبح لها أهمية أكبر، حيث تم وضعها في القبور كنوع من المرفقات الجنائزية واستخدمت كهدايا أو سلع للتبادلات التجارية”.
وفي خزانة أخرى نجد كيف استمرت حرفة صناعة الفخار في فترات العصر الحجري النحاسي (تل حلَف والعبيد المؤرخين بين نهاية الألف السادس ونهاية الخامس قبل الميلاد) وأصبحت حرفة تصنيع الفخار أكثر اتقاناً وزخرفةً منها حيث وجد المنقبون مثلاً: طاساتٍ من الفخار الغامق المصقول في (تل الرماد، ريف دمشق تعود للألف السابع قبل الميلاد) وفي (تل الصبي في الرقة) وآنية فخارية على شكل حيوان رباعي القوائم -ربما يمثل ثوراً- موجود في تل الخزامى، ريف دمشق، الألف السابع قبل الميلاد).
كما نجدُ في المرويّات الآثاريّة كيفَ أن الاستخدامات العملية للفخار تنوّعتْ وتعددت من قوارير فخارية للعطور، ومصافٍ لزيتِ الزيتون، وسُرُجٍ (جمع سِراج) للاستخدامات الجنائزية والإنارة في الفترة الرومانية، ومنها قوالب فخارية منقوشة لصنع المخبوزات، ومباخر فخارية صغيرة وكبيرة الحجم للمناسبات الدينية.
مع لمساتٍ الفنّ الإسلاميّ!
أمّا “الفخار الإسلامي” بمراحله المتعددة كما في العصر الأموي نجد فيه تأثيرات الحضارة الساسانية والبيزنطية -حسب التنويهات التي ترشدنا إليها اللصاقاتُ الصغيرة جداً والموضوعة إلى جوار القطع الفخارية داخل خزانات العرض- ثم في العصر العباسي أنتجتِ الرقّةُ نماذجَ مميزة حيث أصبحت صناعة الفخار بالقوالب المتشابهة بالزخارف والدقة في المقاسات، وجدنا آنية فخارية لها زخارف متعددة آدميّة وهندسية الشكل وحيوانية وكتابية، وتزيينات بالوخز والتقطيع والتمشيط أو بإضافة عناصر فنية بارزة.
اللافتُ في هذا المعرض المميز، أن هناك قطعاً نادرة يمكن اعتبارها تحفاً جمالية تصلحُ لأن تُعرض في أرقى المتاحف العالمية (ومتحفُ دمشق الوطني واحدٌ منها بالتأكيد) إذ نشاهدُ في إحدى الخزانات “رأساً فخارياً على هيئة سبعٍ منحوتٍ مع رقبته، بوجه مستدير وأذنين وأنف غليظ، وعيناه عبارة عن ثقبين مستديرين، والوجه عموماً مزينٌ بزخارفَ نباتية وهندسية تُشابه ما اكتُشِفَ في دمشق وحماة، في القرن السادس والسابع الهجريين (12- 13 ميلادي).
ومن المعروضات التي أدهشتني أيضاً إبريقٌ كرويّ الشكل له عدة مثاعب (فتحات) ومزيّن بعُرَىً وحلقات مستديرة، والجزء الأسفل من الوجه مزين بزخارف محزّزة غير منتظمة، بينما زُينت الشفة والعنق، وقد اكتشف في دمشق (منطقة زقاق سيدي عامود، من مكتشفات القرن الثامن والتاسع الهجري (14-15 ميلادي).