الأدبان المهجري والرحلات.. هكذا أغلقت الدائرة!
علي الرّاعي
ثمة من كان يصف حياة الأديب الفرنسي ذي الأصل البلجيكي هنري ميشو (1899-1984) بسلسلة من السفر والهروب، حتى أطلق عليه معاصروه صاحب الألف سفينة، والألف” أوتيل” والألف قطار، وميشو الذي يعد أبرز وجوه المشهد الجمالي والأدبي العالمي منذ نصف قرن، قام سنة 1928 بجولة حول العالم زار خلالها أمريكا الجنوبية والشرق الأقصى، واطلع خلالها على عادات وتقاليد شعوب مختلفة، وأماكن غريبة، كل هذه الأسفار شكلت له زخماً – على حدّ وصف متابعيه- في نتاجه الإبداعي (الشعر والرسم).. ذلك أنه لم يكتب كتابة سياحية، فالمغامرة الأهم لدى ميشو كانت السفر باتجاه الذات، وكشف العالم الداخلي، غير أن الإستفادة الكبرى من هذه الأسفار كانت بالابتكارات اللغوية (لغة صورية) تفهمها كل الشعوب.
ما تقدم لا يأتي كمقدمة عن نتاج هذا الأديب – ميشو- ولكنه نموذج لذلك الجيل الذي برز قبل منتصف القرن الماضي، الذي كان “مضطراً” وحتى يكتب بلغة مغايرة عن الذين حوله، لأن يوسع، ويطوّل باستطالات مداركه وحواسه، باللجوء إلى عولم أخرى، والأفضل أن تكون عوالم عذراء وبكراً، وثمة من نحا على الطريق ذاته، أو على طرقٍ مختلفة فيما بعد من سوريين وعرب، فالهجرة من مكان إلى آخر للكاتب المبدع، قد تكون لها هجرة مماثلة في شكل الكتابة، حيث لكل مكان مفاتيحه الخاصة، وهو لا يسعى لتوحيدها، ومن هنا تتعدد النصوص، كما لا يأسره شكلٌ واحدٌ للكتابة.
هكذا سنقرأ نصوصاً مختلفة للكثير من السوريين، وغيرهم من العرب، كما سيكون لنتاجهم شيء من الاستمرارية والاستدامة، والكثير من الانعطافات المختلفة، وتلك المخيلة التي لا تشح ولا تشيخ، هكذا سيظل شاعر ومفكر مثل أدونيس سابقاً لكل معاصريه بمن فيهم المبدعون من الشباب، وهكذا سيظل البعض يمشي على منواله، وإن كان بنوعية أقل ممن أطال السفر في أماكن بعيدة، وذلك ليس ككاتبٍ سياحي، وإنما ليجد مرافئ جديدة ومحطات داخل الذات المبدعة، ومن ثم كشف هذه الجوانيات التي بلورها الترحال بنتاجٍ إبداعي مختلف عن ذلك الراكد المستقر، ولن أذهب في التطرف وراء الفكرة وأقول إن وراء تلك المخيلة التي لا تشيخ، هي “السياحة” في جغرافيا لا حدود لها فقط، غير أن “الهجرة” المستمرة والسفر الطويلين كانا من أسبابها الأولى، هل نفهم إذن لماذا انغلقت دائرة النتاج عند الكثير من المبدعين، وصار المبدع من هؤلاء يكرر وينوّع على النص ذاته لسنوات طويلة، الأمر الذي جعل متابعيه يتمنون لو فعلها، وتوقف منذ زمن ثلاثين سنة على الأقل، تحديداً عند آخر ما كتبه وفيه لمسة إضافة إلى ما كتب سابقاً، وحتى لا نبقى في دائرة التعميم، نقول ألم تنغلق الدائرة عند حنا مينة، ومحمد الماغوط، وياسين رفاعية، وعادل أبو شنب، وغيرهم وغيرهم، وكان الأجدر بهم لو توقفوا عن الكتابة منذ سنوات طويلة؟
لكن ثمة من يقول أيضاً إن السفر من أجل تلك الحالة الإبداعية كان له من الضرورة بمكان، وذلك لأن وسائل الإتصال بما يجري خلف البحار كانت متواضعة، ومن ثم كان لابدّ من الذهاب لمعرفة واكتشاف ما وراء “الأكمة”، ومن ثمّ فإنّ كاتب اليوم ربما ليس مضطراً لمعاناة هذا السفر الطويل طالما أن وراء الأكمة يراه بوضوح، وهو جالس خلف جهاز “الكمبيوتر” غير أن ذلك يبقى في عالم الإفتراض، ومن ثم لابدّ من معايشة تلك الجغرافيا الجديدة عن قرب، ألم “يعسكر” اليوم بعض الكتاب، لاسيما من الروائيين في مطارات معينة، وفي أماكن محددة لإنجاز رواية بذاتها وحتى لو كانت هذه الأماكن سجوناً وعلب ليل؟!
ثمة أمرٌ آخر أشير إليه في مسألة ترحال الكاتب، وهي إن المبدع العربي، الذي غيّر مكان إقامته العربية، وذهب بعيداً صوب جغرافيا مغايرة، حيث اكتشف هناك جغرافيته العربية أكثر مما لو كان مقيماً فيها، والجغرافيا هنا لا أقصد بها التضاريس من جبال وسهول وصحارى، وغيرها، بل تلك الجغرافيا الداخلية التي كانت موصدة، ومن ثم كان أن فُتحَتْ بأبواب السفر، هكذا يعلن أدونيس لقد اكتشف المتنبي في باريس، وهكذا سيكتب أمين معلوف روائعه “صخرة طانيوس، وسلالم الشرق، وغيرها” !!
بقي أن نُشير إلى اضمحلال ظاهرتين: الأولى انغلاق دائرة الأدب المهجري خلال النصف الأول من القرن العشرين، وافتقاد المشهد الثقافي العربي أدب الرحلات، أو هو من الندرة بمكان.. الأول الذي بدأ قليلاً في المشهد الثقافي العربي، والذي يبدو اليوم اضمحلّ و لاسيما مع انتشار الفضائيات، وخصوصاً الوثائقية منها، والثاني الذي أغلقت دائرته مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين مع سهولة السفر والاكتشاف المُريح للجغرافيا الجديدة..
وللحديث بقية..