دروس وعِبَر من حصار الثمانينات
إن الحصار الاقتصادي والعقوبات التي يواجهها السوريون ليست جديدة عليهم، حيث يتذكّر السوريون أزمة الثمانينات وظروفها التي استمرّت لسنوات عديدة من العقد اللاحق، وعرفت بأزمة الثمانينات، ونجمت أساساً عن الحصار الاقتصادي الغربي على البلاد، الأمر الذي تسبب في فقدان معظم السلع الرئيسة من الأسواق المحلية، وحدوث موجة غلاء كبيرة، وذلك بالتزامن مع انخفاض كبير في دخل الأسرة السورية، وحسبما يذكر المعاصرون لتلك المرحلة فقد مرّت سورية خلال منتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي بأزمة اقتصادية خانقة، نتيجة عقوبات اقتصادية وحصار جائر، وقد كان لهذا الحصار نتائج سلبية على الواقع المعيشي للمواطنين، وعلى عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد وصلت خطورة الوضع الاقتصادي في منتصف عقد الثمانينات إلى درجة أن مخزون البلاد من مادّتي القمح والطحين لم يكن يكفي في كثير من الأحيان لأكثر من 15 يوماً، وهنا أطلق القائد المؤسس استراتيجية الاعتماد على الذات لمواجهة الحصار الاقتصادي الغربي، وتخفيف معاناة المواطنين في الحصول على احتياجاتهم الأساسية، مقابل إجراءات صارمة تمنع التعامل بالعملات الأجنبية. وهذا ما حصدت البلاد ثماره من خلال زيادة ملحوظة في الإنتاج الزراعي، والانفتاح الاستثماري التدريجي في قطاعات الصناعة والسياحة وغيرها.
وقد كانت الاستراتيجية الاقتصادية آنذاك قائمة على ركيزة أساسية محورها أن «الاقتصاد الحقيقي يتمثل في تنشيط قطاعي الزراعة والصناعة، مع التركيز على القطاع الزراعي بشقّيه النباتي والحيواني”، وبناءً عليه، تم إيقاف الاستيراد بشكل شبه كامل لجميع السلع غير الضرورية والكمالية، باستثناء المواد الغذائية الأساسية، واعتمدت البطاقات التموينية لترشيد الاستهلاك وتأمين الحاجات الأساسية للسكان،و تم الانتقال من اقتصاد الندرة في المجال الزراعي إلى اقتصاد الوفرة، وتم تحقيق الأمن الغذائي للسلع الأساسية والاستراتيجية من خلال فائض الإنتاج الزراعي».
وشيّدت صوامع الحبوب على امتداد الجغرافية السورية وتم تجاوز حصار الثمانينات.
اليوم، تشهد سورية أزمة اقتصادية خانقة، سبّبتها عدة عوامل داخلية وخارجية، أبرزها احتلال القوات الأميركية ومجموعات “ق*س*د*” لحقول النفط والغاز، والسيطرة على الأراضي الزراعية المزروعة بالقمح، إضافة إلى العقوبات الغربية المفروضة على البلاد منذ بداية الأزمة، وزادت حدتها منذ بداية العام 2019، وهو ما تسبّب في ارتفاع معدّلات التضخم إلى مستويات كبيرة حيث تشير التقديرات إلى أن أسعار السلع والمواد زادت، منذ بداية العام الحالي لغاية تاريخه، بمعدل 48 ضعفاً، مقارنة بأسعار العام 2010، وبنحو 3 أضعاف منذ بداية العام. أمّا داخلياً، فإن المسؤولية تُلقى على شبكات الفساد الواسعة والمضاربين، والتي تتاجر بلقمة عيش المواطن وتنهب ثروات البلاد ومقدّراتها وتضارب على سعر صرف الليرة، الأمر الذي أدى إلى تعمّق ظاهرة الفقر المنتشر بين السوريين.
و إذا أردنا الآن أن نحلل إجراءات الثمانينات نجد أنها حققت نجاحات هائلة انعكست في زيادة صمود سورية في وجه أعتى الضغوط من خلال سياسات الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الذات.
الآن ومع تطور الظروف أعتقد أننا بحاجة إلى تبني استراتيجية طويلة المدى تتضمن : بداية يجب اعتماد سياسات إنشاء خزانات استراتيجية للنفط الخام والمشتقات النفطية تكفي لفترات طويلة، وهنا نذكر فقط بأن الولايات المتحدة تحتفظ بمخزون استراتيجي يكفيها لخمسة وعشرين عاماً، وأن يكون توزيع المخازن بشكل جغرافي يضمن تغذية المحافظات كلّها، وكذلك الأمر بالنسبة للقمح، إذ يجب زيادة السعات التخزينية وعلى التوازي زيادة الإنتاج، بحيث يكفي لمدة أطول مع اعتماد سلع استراتيجية غذائية وتأمين مخازين طويلة الأجل منها، فمشكلتنا الأساسية حالياً تتركز في غياب المخازين الطويلة الأجل لجهة القمح والمحروقات من جهة، ومن جهة ثانية نقص التمويل، ومع ذلك فإن الأمل لايزال قائماً بقدرة البلاد على تجاوز الأوضاع الحالية والتغلّب على العقوبات المتجدّدة، كما تجاوزت أزمات الماضي، فكما أن هناك نقاط ضعف تصنّف على أنها أشد سوءاً من السابق، فإن نقاط القوّة تبدو أكثر حضوراً وتأثيراً فيما لو استثمرت بشكل صحيح وأبرزها حالياً استغلال الظروف السياسية الدولية واستعادة حقول النفط مهما كان الثمن، بحيث نضمن تدفق النفط الخام إلى المصافي وعودة الإيرادات الحكومية إلى وضعها الطبيعي .
الأهم أيضاً إنشاء قاعدة بيانات دقيقة للحكومة توضح الفئات المستهدفة من كل إجراء حكومي أثناء الأزمات الخانقة، مع زيادة التركيز على توقيت التدخل.
الوضع حالياً من أصعب المراحل التي تواجهها سورية في تاريخها المعاصر والمعالجة يجب أن تنطلق من شقين، الشق الأول: إدارة المخازين المتوافرة بأعلى كفاءة ممكنة تضمن عدم انقطاعها، والشق الثاني: يتعلق بوضع خطط استراتيجية تعزز قدرات المواجهة لأطول فترة ممكنة، فنحن أصبحنا في اللحظات الأخيرة من عمر الأزمة وهي أخطر اللحظات وتتطلب اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر في كل خطوة، فالعالم برمته يرسم من جديد.