الشاعر صقر عليشي يوقد ذهن القارئ بطريقة مغايرة للمألوف
يقول الشاعر الإيراني شهريار : “إن حقيقة الشعر تماثل روح الإنسان، وهذه الحقيقة أو الروح موهبةٌ طبيعيةٌ، ولا يمكن امتلاكها بالتصنّع، وهي التي تميّز الشاعر الحقيقي”. وهذا ما ينطبق على روح الشاعر صقر عليشي الذي استطاع باقتدار التعبير والبوح بالمشاعر الإنسانية في أدق حالاتها وأصدق مشاعرها في إبداعه الشعري الذي تميز بالسهولة والبساطة، والعمق التصويري، حيث قال:
“سنكتب شعراً
لكي يتمرأى القمر
سنكتب شعراً
لكي لا يضيق على الطير أفق
لكي تستمد السماوات زرقتها
من جمال الصور..”
“صقر عليشي” الذي أبدع بنسج قصائده “المشرفة على السهل” وكشف الكثير من “الأسرار” و”القليل من الوجد”، ووصل إلى “أعالي الحنين”، ليقطف “عناقيد الحكمة”، وليجد “الغزال” الشارد، وليلملم كل ما شهدته تجربته من إبداع في مجموعة متكاملة مترفة بقصائد الحب والعشق والرومانسية، حلّ ضيفاً خفيف الظل على ثقافي طرطوس وأطرب مسامعنا بمجموعة من القصائد الجميلة بعد أن قدمت الأديبة ميرفت علي قراءة انطباعية تناولت فيها بعض خصائص تجربة الشاعر صقر عليشي، وهي برأيها تجربة نموذجية استمدت أسباب نمائها وتسامقها واكتنازها من الركون إلى الفطرة السليمة، والأخذ بأسباب التعلم والاكتساب، ورأت أنَّ الشاعر قد أحسنَ الاطلاع على الموروث الشعري العربي قديمه وحديثه، وعلى المدارس الشعرية الغربية وتوجهاتها المعاصرة، واستخلص من اطلاعه الواسع نمطاً شعرياً حداثياً رفيعاً شكَّل هوية الإبداع لديه، إذ تميَّزت مضامين قصائده بالتنوع والثراء وعكست خبرته الكبيرة في الحياة.
ولفتت الأديبة علي إلى أن الشاعر أعادَ ترتيب الحياة وفق رؤيته الخاصة لها، وأخضعَ كل مشاهدها إلى الفلترة، فحذفَ الموضوعات التي عدّها زيادات، واحتفظ بالتجارب والخبرات التي رأى أنَّها تشكِّل قواسم مشتركة له مع القارئ، هذه الخاصية “الانتقائية” انسحبت على المعنى وعلى المبنى الشعريين، وجعلت أولى مزايا شعرهِ الاقتصاد اللفظي والمعنوي، وهذا أبرز التفاخر بالذات الشعرية المبدعة عند الشاعر، التي أسست نفسَها بنفسها من الصفر دونما مُعين أو مساعدة.
ونوهت بأن قصيدة عليشي عُنيت بالطبيعة وبتوطينها في الذاكرة والوجدان، وبمنحها حق المواطنة من الدرجة الأولى، إذ لا يخفى على قارئ لشعره افتتانه بالطبيعة الريفية، وإجلاله لعذريتها ولبراءتها التي لم تمحُها من الذاكرة فجيعة الاغتراب الطويل والتنقل بين أقبية دمشق وأزقتها، كما يُشير إلى ذلك بصراحة في قصيدته (سيرة عاشق)، هذا الهوس بالطبيعة وبعناصرها الحية والجامدة احتلَّ مساحة كبيرة من أداء الشاعر، حتى غدا يستمد أبجديَّته من هسيس العشب، وحفيف أوراق الشجر، وسقسقة النهر.
وبرزت الأنسنة – حسب الأديبة علي – كمَعلم واضح من معالم المضمون الشعري لدى الشاعر صقر عليشي، الذي نظرَ بعين العطف والرحمة إلى الكائنات والموجودات التي تُساكن الإنسان، وتناولَ بدهاء المفاهيم المجرَّدة، وتفلسفَ في إعادة تدويرها في الذهن، فأكسبَها سمات الحيوية والانتعاش، وأوقدَ ذهن القارئ باتجاه التفكُّر فيها وتناولها بطريقة مغايرة للمألوف، فنجد المفاهيم الرياضية كالدائرة مثلاً وقد اكتسبت تاريخاً من التحول، ولها حيواتٌ ماضية كما للإنسان، ولم يُثقل الشاعر بفلسفتهِ على القارئ، بل كان ظلُّه خفيفاً كريشة تتناقلها الأنسام.
وتذكر علي أن الشاعر اتكأ على الأسطورة والملاحم الكبرى، ووظَّفها لخدمة نصه، أحياناً يستحضرها كما هيَ مع قفلةٍ شعرية يضمِّنها إضافته الخاصة، وأحياناً يتصرف بالملحمة ويطوِّعُها لغرضٍ شعري خاص ومعاصر، وفي كلتا الحالتيْن فقد وفِّقَ في استلهام الموروث الميثولوجي العريق، أمَّا المرأة فقد شغلت اهتمامه وجاءت علاقته الشعرية بها منزَّهةً عن كونِها مجرد علاقة جسدية حسية، وسما بها كشريكةِ حياةٍ ومصيرٍ، وخاطبَ روحها قبل جسدها ناشداً أسمى درجات التشاركية بين آدم وحواء.
وتوقفت الأديبة ميرفت علي عندَ مزايا الأسلوب الشعري، وأبرزُها : الرشاقة اللغوية، البساطة والوضوح، الغنائيَّة والتلاقي في هذه الخصيصة مع القصيدةِ النزاريَّة، وحسن توظيف الموروث البلاغي والبياني العربي في خدمة القصيدة، وفي نقل أفكار الشاعر إلى قارئهِ، وجاء هذا التوظيفُ خفيف الظل، بالكاد نحسُّ بمروره ما أضفى جمالية على الأسلوب، ويبرز عنصر الفكاهة والتندُّر في كثير من المقطوعات الشعرية التي أبدعها الشاعر ولا يزال يتفنن فيها.
في الختام تقدم الشاعر عليشي بالشكر من الأديبة ميرفت علي لأنها تناولت في قراءتها أهم ما يميز تجربته الشعرية التي امتدت نحو أربعة عقود، وكانت موفقة جداً في التقاط الجوهري والمميز الذي يشكل إضافة في التجارب الشعرية الحديثة لدينا، وقال في تصريح خاص لـ”تشرين”: منذ أكثر من سنتين لم أقدم نشاطاً في طرطوس، لذلك أحببت أن أقدم شيئاً جديداً رغبة مني أن أرى وأسمع رأي الأصدقاء بها وخاصة قصيدة “اللمحات”،
وهي مطولة مؤلفة من العديد من القصائد (لمحة عن الحرب، لمحة عن الكلمات، لمحة عن الرياح وغيرها..).. وهي تجربة جديدة في الكتابة الشعرية حسب علمي، وأضاف: إن اللقاء مع محبي الشعر في طرطوس جميل وخاصة أنه برفقة الأديبة الكاتبة المبدعة ميرفت علي التي أضاءت بجمالية خاصة وعمق على تجربتي الشعرية وسبق لها أن كتبت عن هذه التجربة في أكثر من موقع، وكانت دائماً تعرف كيف توصل فكرتها وهو ما كان سبباً ودافعاً للقدوم إلى محافظة طرطوس، إضافة إلى ذلك أن لي الكثير من الأصدقاء الشعراء والأدباء ومحبي الشعر، وطرطوس كمّاً وكيفاً غنية بهم وهذا معروف للجميع.