اشتباك

أُؤجّل قراءة منشور إلى ما بعدَ المرور على عشرات المنشورات، ليس لأنه طويل، بل لأن كاتبه مفكّر وقراءته تستوجب التلبُّث والفهم والهضم! شيئاً فشيئاً اختفت المجلات الفكرية المتخصصة وصارت أعدادها المقروءة أرشيفاً مكدساً على رفوف المكتبة العالية بعيداً عن العين واليد، وبات الموفور من “الفكر” متاحاً على وسائل التواصل الاجتماعي، المكتظة بكلّ النقائض!
هذا المفكّر يأتي إلى منصّته ليناقش قضيةً يعتبرها مسألةً وجودية دونها حياته التي قضاها متأبّطاً ملفات يناقشها ويدحضها ويطرح حولها أسئلة هي في الواقع مواقفُ لخصومٍ يواجههم بالبرهان والمنطق والوثيقة التي يتجاهلونها لغايةٍ ما يلبث أن يشير إليها وهو يحمّلهم مسؤولية أخلاقية! وقد يُخيّل للقارئ أن هذا الحوار يجري من طرفٍ واحد، يغيب منه الطرف الآخر، والحوار الذي اعتدناه هو طرفان ما يلبثان أن يشتبكا بسبب الانفعال والتسابق إلى دحض الفكرة وطرح نقيضها والخاسر الأول هو المتابع الذي يريد أن تتبلور أمامه حقيقةٌ ما، لكن الواقع يقول شيئاً آخر في هذا الفضاء الذي يعتمد العصف الذهني!
من جماليات “الاشتباك” المكتوب أنه لا يضيع ولا يتبدد كالظّواهر الصوتية، كما أنه يتحرر من شرط الزمان، ويمكنه أن يجعل مفكراً يناقش آخر عاش قبله بقرون، وآخرَ يشتبك مع مفكرٍ يتحدّث بلغة أخرى وجغرافية قصيّةِ البعدِ عنه، ولعلّ هذا هو سرُّ تطور البشرية، التي تصطرع فيها الإيديولوجيات والعقائد الروحية وفضيلةُ التدوين تجعل العودةَ إلى النص ممكنة، لأن آلية اليقين لا تستقرُّ من اللحظة الأولى للسماع أو القراءة!
كما يجري “الاشتباك” بين المفكرين بلا هوادة، يجري أيضاً في ذهن المتلقي! المفكر ثابت حين يطرح أفكاره لأنها نضجت على نار هادئة وخبرة وتمحيص أما المتلقي فيحتاج إلى زعزعة قناعات وحرثِ تربة وتبديل أولويات وإعادة ترتيب ذهني واسترداد تفاصيل مبعثرة ليضع نفسه في المكان المريح!
أعود إلى مقال المفكر لأقرأه بهدوء وفي ذهني معرفةُ موقفه الواضح من استلاب الأرض فأشعر بغضبه الشديد من دعاة التطبيع واستنكاره لدأبهم في خدمته، وتكاد الكلمات المصوغة في جُملٍ مختلفة الامتداد تشبه الطّلقات المسدّدة! إنه يعود إلى رفع الصوت في وجه خصومه كأنهم أمامه يُسمعونه ما لا تحتمله نفسٌ ولا عقلٌ مفطورٌ على حماية الأرض مثلَ حماية الذات! وأجد في نفسي تفهماً وتقبلاً لأسلوبه في الاشتباك، كما عرفته في أزمنة قراءة الكتب، التي منها ما صحّح موقع “السُّهروردي” و”الحلاج” و…و… والعديد من الحقب التي لم ينتهِ “الاشتباكُ” حولها بعد!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار