لا تستطيع الطفلة صرفَ انتباهها وسمْعِها عن الإنشاد المتدفق من مئذنة الجامع! ..تسأل بمنتهى الجديّة والاهتمام : – كيف استطاع كل هؤلاء الصعود إلى المئذنة الشاهقة؟ كيف وجدوا أمكنةً للجلوس؟ كم واحد منهم يعزف على “الرِّقّ”؟ وكيف تصل أصواتُهم صافية من هذا البُعد حتى أنها تعبر الشّبابيك وتدخل كلّ البيوت، صغيرةً وكبيرة، عاليةً وأرضية؟ وبأسئلتها تفتح، من دون أن تدري، ألف نافذةٍ تحتاج إلى إغلاقٍ سلْسٍ رفيق، دون خدشٍ لخيالها الحارّ الطليق! سأقول لها إن المنشدِين غيرُ موجودين في المكان الذي وضعتهم فيه، بل في زمنٍ سبق اللحظة التي تعيشها، والحضور القوي للصوت والعزف هو تسجيل! فأكتشف لتوّي أن التسجيل معجزة، يمكن أن تضع الصوت في آلاف الأمكنة دون أن تذهب طراوتُه، وتذكّرني بأنّ هذه التواشيح أُنشدت منذ قرون، وأن آلةَ “الرّقّ” تنقّلت من يد إلى يد عبر الأزمنة، ولم تتخلّف قَطُّ عن مدينة أو قرية في كلّ حواضر العمران، مثلها مثلُ التراتيل الكنَسية، لأن حاجة النّفْس إليها كحاجتها لأغاني المهد والزّفاف والحصاد وجني الثمار، وكانت جوقةُ المنشدين تجوّد في غنائها لتصل إلى القلب قبل الأسماع، وكم من أسماءٍ لهؤلاء تركها التاريخ مدوَّنةً للزمن دون أن يرافقها “الصّوت” الذي أبدع، لأنه تبدّد بقانون الزّوال، حتى تمّ اختراعُ التسجيل وهو أيضاً عرف طريقاً بطيئاً في الارتقاء منذ بدأ بـ “فونوغراف” أو “الحاكي” أواخر القرن التاسع عشر، على أسطوانة من شمع ومرّ بالأشرطة الممغنطة إلى ما نجده اليوم من معجزاتِ حفظ الصوت واستعادته، كفَفْنا عن التفكير بها رغم أننا نبالغ في استخدامها!
لونٌ من الوجد والتقرب إلى الله حين يصفو الكون ويهجع، وتغادر الروح مشاغل الدنيا لتطلق عقالها في الملكوت الرحيب، وإذ ترك المتصوفون أشعارهم مكتوبة في دواوين من ذهب وجواهر لا يخفت بريقُها عبر الدهور، ضاعت أصوات المنشدين في طيّات الزمن الذي لا يتوقّف، ولربّما لم يبقَ منها إلا الكلمات تغادر إلى فرق إنشادية أخرى بتلاوين جديدة، لكنها لا تجعلنا نسامح الزمن الذي بدّد غيرها!
كنت أحضّر شروحي للطفلة، لكنني تعثرت عند تشبيهٍ دقيق، بأن الأبجدية حافظت على نضرة الكلمة، وكذلك التسجيل حافَظ على نضرة الصوت وأنقذه من الضّياع فالنسيان، وفي سمعي تنسابُ أصواتُ منشدين لطالما جعلوا من إنشادهم مناسباتٍ روحية تنافس في شجوها وعلوّها كل أنماط الغناء التي رفعت بعض الأصوات إلى مقام النجوم السّابحة في الفلَك…