في الفجر، صمتت الهواتفُ الأرضية صمتَ الموت!
خلال شهور بات الحيّ بلا تغطية للهواتف الجوّالة، وكان التحايل عليها يتمّ بوسائل الاتصال المتاحة كلما سمحت الكهرباء بذلك، والكهرباء تشحُّ شُحَّ القمح في أهراءٍ لا يتجدّد تزويدُ حبوبها في المواسم، وفي هذه الحرب المسعورة علينا يطفئون آخر شعاعٍ يضيء الظلمةَ التي فرضوها علينا!
تروي السيدة التي اعتادت مؤخّراً استخدام البريد الإلكتروني في التواصل مع الصحف والمواقع الوطنية والأصدقاء في المغترَبات، أنها أفاقت في الفجر لمراجعة رسائلها وتنقيحها قبل الإرسال، لكنها فوجئت بانقطاع النت وكعادتها كلما فقدت شيئاً- وكم فقدت من أشياء خلال عشر سنوات- عزَت ذلك إلى سبب قهري سيزول حتماً بوجود البدائل، حتى أشرقت الشمس في بردٍ لم يعرفه آذار في حلوله ببلاد الشام، وعرفت أن الحيّ الذي تسكنه قد أطبق عليه الانفصال عن الشبكة العامّة! –لماذا؟ ما السّبب؟ ويأتيها الجوابُ المرّ: -تمّ قصُّ “الكابل” الواصل بين المقسم ومراكز الخدمة تحت جنح اللّيل على أيدي لصوص، ولا يصحُّ هنا أن يوصَفوا بالمجهولين، لأنهم معروفون منذ أطلقوا أول رصاصة، طوّروها فيما بعد إلى قذيفة وطالوا بها ما استطاعوا من عمران البلد! يقول الرجل البسيط على مسمعها: -الناس جاعت ولا لوْمَ عليها، فتسأله: -هل “الكابل” “مشبّك” مغطّى بالقَطْر يسدُّ جوعهم؟ إن إيذاء آلاف البشر لا يمكن تبريرُه بهذه السّذاجة! وحين تمضي وهي تفكّر بوسيلة لإرسال بريدها الضروريّ تهاجمها أفكارٌ أخرى: يوم هاجوا وماجوا بالشعارات والأسلحة والمذابح كانت الكهرباء عدوّهم الأول وحين لم يستطيعوا تدمير كلّ محطاتها وأبراجها، ابتكروا الدعوة إلى عدم دفع فواتيرها، وتفتّق جنون حقدهم عن فتوى تدمير أعمدة الشبكة الموزعة على كل تراب الوطن لأنها غير محروسة، وتذكّرتْ بغصّة بلغت حنجرتها المجزرة التي قضَوا فيها على مهندسي وعمال حقل “الشاعر” ليوقفوا ضخَّ الغاز إلى محطات التوليد وكيف، إذ مدّت يدها إلى زرّ المصباح كي تضيئه، رأت دماء الشهداء تسيل منه!
تكرر النظر إلى “الرّاوتر” ذي النقطتين الخضراوين ينازعها الأمل باكتمال اخضرار النقاط الأربع ، وهي تتساءل: من هؤلاء، هل تمّ تحريرُ الأرض منهم حقاً؟ يوم عادت إلى منزلها بعد تهجير طويلٍ، طويل، لم تكفّ أبداً عن تحية صور الشهداء التي تزيّن الجدران وهي تغضي ببصرها خجلاً وامتناناً وتقنع نفسها أن العالم كلَّه أفاق من كابوسٍ دمويّ وعليها أن تواصل الحياة، وحين تهمّ بالبحث عن الرجل الساذج لتقول له إن هؤلاء ليسوا من الفقراء، بل من ثلّة الإجرام إياها، يُسقَط في يدها حين تسمع أن مدير المقسم مع مهندسيه وعماله، يقف الآن على الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمقسم ويقول: إن الإصلاح يحتاج مبالغ طائلة وزمناً لا نعرف مدّته، وتردّد هي في نفسها، ما ردّدته في كل منعطف إجراميّ تقصّدوا به الأبرياء: -لم يكفّوا! لكنهم سيكفّون لأن الجريمةَ طارئة، وكلُّ طارئ إلى زوال…