الموضة.. وأسلوب التحكم بالثقافات وتغيير الأهواء

ما نلبسه اليوم، سيبدو مستهجناً للجيل القادم، وقد حصل الشيء نفسه عندما لم نقتنع بلباس آبائنا أو موضاتهم، وهذا الأمر عانى منه الأجداد أيضاً، فمن يتحكم بالذائقة ويبدل اهتمامات الناس بهذا الشكل حتى يفضلوا قصة شعر معينة أو موديلا محددا، وما تأثير كل ذلك على الثقافة والعادات والتقاليد المتبعة عند كل جيل وفي كل مرحلة.
على صعيد موضات الألبسة، تشير تقارير الاقتصاد العالمي الى أن هناك ثلاث عشرة عائلة تسيطر على صناعة الأزياء في العالم، ويوجد معظمها في فرنسا وإيطاليا، وقد وصلت ميزانية تلك الصناعة إلى أكثر من 2.5 تريليون دولار خلال عام 2017، كما يبلغ عدد الإمبراطوريات الضخمة العاملة في هذا الحقل أكثر من عشرين شركة تسيطر على 97% من عائدات هذه الصناعة عالمياً.
أعداد هائلة من المصممين والخبراء ينهمكون كل موسم في ابتكار الموضات المختلفة التي ستسود العالم في الشتاء أو الربيع والخريف والصيف.. مكنات هائلة تتحكم بالذوق وتصدر منتجاتها إلى أهم مراكز التسوق العالمي والمستهلكين الذين يتقبلون الأمر بشكل طبيعي!.
صناعة رأي موحد منصاع للموضة لا تختلف كثيراً عن صناعة الرأي العام العالمي أثناء الحروب والدعايات السياسية من أجل دعم قضية معينة أو تجريم قضية أخرى، فالآلة تكاد تكون نفسها مع تعديلات بسيطة في الإدارات وطبيعية الخبراء العاملين في كل اختصاص. مثلا المقاومة العادلة في فلسطين يمكن أن تتحول الى “حركة مدانة عالميا”ً، كما تصبح الاحتلالات التي تمارسها الدول الاستعمارية ضد الدول النامية والضعيفة كأنها عامل إنقاذ لتلك البلدان مع انها لا تتعدى نهب الثروات والتعامل مع واردات الشعوب كحق لأولئك المتوغلين في الثروات العالمية.
وتختلف الموضة بناء على معيار الأرباح المادية المنتظرة، ويمكن أن يتم تعديل تصميم الأزياء حسب البلدان التي ستستقبل تلك المنتجات، وفي كثير من الأحيان تنتعش موضات سبق أن اندثرت في السابق، فيعود الخبراء إلى إحيائها من جديد. بل إن العامل السياسي والدعائي لا يغيب عن هذا الموضوع عندما تحاول بعض الشركات وضع شعار أو (لوغو) على الأزياء يرمز إلى جهة معينة أو يسوق ثقافة معينة، وقد فعلت ذلك مراراً شركات موالية ل”إسرائيل” عندما وضعت رموز كيان الاحتلال على الملابس بطريقة لا تظهر بشكل صارخ.
بالعودة إلى أزياء الماضي قبل نحو قرن من الزمن، يرى الكثيرون أن لباس الجدات كان أكثر جمالاً من لباس اليوم، حتى بالنسبة لقصات الشعر وموديل الأحذية وغير ذلك، تظهر الرتابة الكلاسيكية التي تسحر الكثيرين مقارنة بالعشوائية التي سادت عند أجيال لاحقة.
في عصور سالفة، كان الرجال يرتدون لباساً يشبه ما ترتديه النساء اليوم، ثم انقلبت الأمور بتغير الظروف المناخية والاقتصادية في كل منطقة حيث اختلفت طبيعة الموضة تبعاً لتلك الاعتبارات.. ففي الأماكن الحارة يسود نوع مختلف من الألبسة تبعاً لدرجات الحرارة العالية، أما في المناطق الباردة فيختلف اللباس كلياً بسبب البرد. أما في المناطق المعتدلة التي تعد الملعب الأساسي للموضة، فهناك يظهر التبدل في أعلى صوره، إذ لا يقوى الناس على مقاومة الموضة حتى لو لم تعجبهم فهم يخضعون للتدجين الممنهج بشكل متدرج لأن البضاعة الموجودة في السوق سوف تفرض هذا الأمر.
لا يبدو الأمر متعلقاً بشكل اللباس، فالموضة لها أهداف أوسع من ذلك من الناحيتين الاقتصادية والثقافية. إنها تدريب على الانصياع الممنهج الذي من الصعب مقاومته. وإذا كان علماء التاريخ يدرسون المجتمعات في فترات معينة من الزمن عبر عاداتهم وأذواقهم في اللباس والطعام وبقية الطقوس، فإن التمكن من صياغة تلك العادات عبر الموضة يسهل التحكم بسلوكهم في المستقبل.. إنها بمنزلة الضربة الاستراتيجية المتكاملة مع عوامل أخرى تؤدي إلى النتيجة نفسها وهي الانقلاب الثقافي والتغير والقبول بما لم يكن وارداً يوماً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار