” تعلِّم العصي على جنابك “

بمناسبة اقتراب عيد المعلم، ما زلت أتذكَّر عندما طلب مني أستاذ الرياضيات في المدرسة الثانوية أن أحلّ مسألةً، تُعد من المسائل الصعبة، والتي تحتاج مساواة طرفي المعادلة فيها إلى تمكُّن، وكانت بمثابة تحدٍّ مُلغَّز بين أستاذي وبيني، وعندما أتممت الحل على أكمل وجه، وبنشوة المنتصر، استدرت إلى زملائي غامزاً بالقول عن نفسي «معلِّم»، ليبادرني أستاذي مُمازحاً «تعلِّم العصي على جنابك»، طالباً نقل ما خطَّته يداي على السبورة الخضراء بالطبشور الأبيض.
ومن حينها ما زالت العصي تُعلِّم على «جنابي»، وتتغلغل في تكويني، فلم يمرّ أستاذ ولم أتعلم منه شيئاً، بمن فيهم أستاذ الفيزياء الذي كان يتغيَّب كثيراً بسبب انشغاله بمكتبه العقاري، ومُدرِّس اللغة الإنكليزية الذي يحفظ المنهاج عن ظهر قلب، وفوقه جميع القواميس، والمصطلحات العلمية والقانونية والتجارية…، لأنه يعمل بعد الدوام كترجمان محلَّف. تعلَّمت أيضاً من أستاذ الفيزياء جبر الخواطر عندما يُداري جهل أحد الزملاء بمساعدته في حلّ مسائل القوة ورد الفعل، ومن أستاذ العربي فن التدريس عبر السَّرد، إذ كان يُخبرنا في كل حصّة قصةً ويستخرج من جُمَلِها ما يحتاجه من توكيدات ونعوت وممنوعات من الصرف…، ومن أستاذ العلوم أخذت بسمة الحياء عندما يتعلَّق الموضوع بالجسد.
أيضاً تعلَّمت من دكاترتي في الجامعة كيف أُفكِّر، وعندما صرت في ميدان العمل” عَلَّمَتْ الكثير من العصي على جنابي” لردم الفجوة بين النظرية والتطبيق، ومن زملائي استلهمت كيف أغرِّدُ خارج السرب. علَّمتني كذلك الكتب كثيراً عن الحياة وعن نفسي، وصارت الكلمات مفاتيحَ نجاة، والفنون على اختلافها غذَّت خيالي وألهمتني إلى دروب الجَمال، وقبل هذا وذاك تعلَّمت من أمي كيف بإمكان الرَّجُلِ أن يمتلك رَحماً من نوع خاص لإنتاج المعاني، ومن أبي مغزى الفرح بالوجود، ثم من ولديَّ أدركت معنى الأبد، وقبلهما من زوجتي كيف أصيرُ روحاً خفيفة في وجه العدم، ولاسيما أنها مُدرِّسة تضج بالحياة والجَمال، ولذلك دائماً ما أُداعبها بموَّال يقول:
«يا ريتني كنت متت مع المات
ولا شفت بها الدنيا صاير معلمات
لحاظ عيونهن بقلبي معلمات
جْرَحَنِّي والجرح ما عاد طاب».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار