أن يأتي الربيع زائراً، ويملأ السفوح والوديان والبراري والحدائق والبساتين بنسغ الحياة الصاخبة، لم يكن كافياً لدخولها فصلاً جديداً من فصول الزمن! بالضرورة كانت تشتري باقة بنفسج، تعالج سيقان زهرها الهشة وتجمعها لتحشرها في زهريّة صغيرة وتضعها تحت البصر، وتحت السمع أيضاً، تستحضر “جبران خليل جبران” في قصته الفلسفية المفجعة “البنفسجة الطّموح”. حينها كانت تشعر أن الربيع يخصُّها كما يخصُّ كلّ الكائنات الحية، وتصمت حين ترى شغف أمها بالنرجس: لا بدّ أن الريف سكن هذه الأم واستبدّ بذاكرتها وأحاسيسها حتى حرصت على استراق بقعة تراب من حديقتها العشوائية لتزرع أبصالاً صغيرة جرّحها الطين، وهي تردد بشجن:” الرُّنجس” سرٌّ لعافية البدن!
رحلت الأم في يوم كانونيّ جليديّ ولم تستطع فصلها عن باقة النرجس التي كانت تتجدد في موسمها موضوعةً في كأس ماء كبيرة، حيث لم تكن المزهرية من تقاليد المنزل الفوضويّ الطّارئ على المدينة، وواظبت على وضع باقة نرجس على مثواها، محاصَرةً بعروق الآس الأخضر وقد نسيت كل الفصول وتلازم عندها شعور تفتح البنفسج والنرجس مع البرد والجليد، و يا للجليد الناريّ الذي حلّ في العالم الواسع حولها يوم دمّر التتار البلد، وجعل الوصول إلى المقبرة مغامرةً فيها موتٌ محقق! الأيام تمرُّ، والشهور تتراكم سنواتٍ، والزهر لا ينتظر من يحتفي به! صارت محلات بيع الورد مكاناً لا يُزار، ربما لأنه بات رفاهية أو غلت أسعاره أكثر من الذّهب، واختفت الباقات وبائعو الزهر عن الأرصفة، واحتشدت الدروب كلّها بقوافل الشهداء! هناك كانت ترى الورد محمولاً بأيادي المشيِّعين! هناك بقي الورد حيّاً يواكب بشراً اغتسلوا وتطهّروا من أدران الأرض! صارت ترى بكل وعيها وانتباهها نوع الورد مع اسم الشهيد! زهر “الغريب”؟ الزنبق البلدي؟ أغصان الغار؟ الورد البلدي؟ الورد دائمٌ من أجل هؤلاء الشهداء، لا يهتم بالفصول الأربعة! حالُه حالهم، تفتُّحٌ ونداوةٌ وشذى!
تدخل في وعيها لا تدري كيف، قصةٌ لكاتب أرمني نسيت اسمه، في هجمات النسيان التي دهمتها بعد الحرب، تحكي عن أمٍّ تواظب على زيارة ابنها في مثوى الشهداء، تبكيه وتغني له وتقص عليه ما جرى بعد رحيله وتوزع الحلوى على الزائرات حتى تخبرها القيادة أنها أخطأت بتحديد مثوى ابنها، وتُعلمها بمكانه الحقيقي! ستزور الأم ابنها وتزرع له الوردة التي كان يحبها وتبكي وتغني وتحكي حكاياتها، وقبل أن تنصرف ستعود إلى مثوى الشهيد الآخر لتسقي وردته وتنادمه هو الآخر: -أنت أصبحت ابني أيضاً!
تنهض من ملّاحة أحزانها! تخرج للبحث عن الورد الذي عجزت عن وضعه على قبر أمها، ستشتريه وتجمعه وتضع على مثوى أقرب شهيد وردة! لن تبرأ الأحزان العميقة إلّا حين ستزهر الورود على مثاويهم، وحيثما قادتها الخطا ستفعل حتى يصلَ عبق النرجس طاوياً المسافات إلى أمها البعيدة!