تحتجُّ الممثلة الكبيرة عمراً وإنجازاً، على ممثلة شابة قامت بدورها في فيلم مستعاد بعد أربعة عقودٍ من الزمن، ويكون الاحتجاج عاصفاً لا مجاملة فيه رغم أن الشابّة فاضت بطيب الكلام ومعسوله أمام أستاذتها في التمثيل! رأت “الأستاذة” أن لا خيرَ في استعادة عملٍ فنّي كان نفيساً في زمنه وتفاصيله التي خرجت من أيدٍ حاذقة متماثلة في الخبرة والمعرفة، ولا يفيد أن يلبس المرء ثوباً حتى لو كان مطرّزاً بالمجوهرات وهو نمط قرونٍ سالفة وتبقى النظرة إليه محكومةً بزمنه وتاريخه! ولم تلتفت إلى صدمة الشّابّة وهي تلقنها درساً مستفيضاً عن ضرورة الانصراف إلى صناعة أفلام جديدة لا تفضح العقم الذي يعمُّ المجال السينمائي ويجعل منتجيه ينبشون الماضي ويتكئون على نجاحاته الباهرة، وكان لافتاً أن “الأستاذة” قد شاهدت الفيلم الجديد وراحت تنبش أخطاءه بدءاً من الملابس وليس انتهاءً بالإضافات السّمجة التي تناسب مزاج المشاهدَ المعاصر!
لم يزُل هذا اللقاء العاصف بين امرأتين أدّيتا نفس الرواية، من خاطري، أنا التي قرأت الرواية ورأيت الفيلم الأول عنها، وكم من رواياتٍ مرّت بنا وطمست كلّ قصص الحب الرومانسية التي قرأناها وتأثرنا بها، بل كم من الأفلام التي صُوّرت حولنا وفي ديارنا وعلى عتبات بيوتنا أذهلتنا بالتلفيق حتى كدنا ننكر أنفسنا ومدننا وبيوتنا وشوارعنا! ولعبت جموع الأفلام على البصر غير المتبصّر بالعقل والمنطق، تماماً كالظّواهر الفيزيائية التي تجعل العصا تنكسر في الماء وهي سليمة! رأينا احتلالاً لعاصمة عربية قبل الاحتلال! رأينا إرهابيين قتلة يغوصون في الدمار لإنقاذ ضحايا مزعومين، وأبصارنا مشغولة بخُوذهم البيضاء رمزِ التضحية والإنسانية وقد غُيّبت أياديهم الملطّخة بالدماء! رأينا بيوتاً مقوّضة نُسب دمارها إلى أهلها وليس إلى تتارٍ طارئين على قيمنا وتاريخنا! ولم تترفع تلك الأفلام حتى عن استخدام “مانيكان” من البلاستيك بديلاً لامرأة مقتولة! كان السّاحر الدجّال يستخدم كلّ الخدع البصرية التي ابتدعها مختصون في الاستديوهات وجعلوا المشاهد يصدّق أن “التايتانيك” غرقت في المحيط بينما كانت مجرد ديكور خشبي في استديو ضخم! وحين انقضت أيام الحرب السوداء اختفت تلك الأفلام كأصحابها الذين وُظّفوا جوقةً مساندة للقصف والقتل، لكننا لم نكد نلتقط أنفاسنا ونحن نسخر منها ومن رداءتها، حتى انتعشت من جديد: جمعٌ بشري كبير من مختلف الأعمار يقف في شارعٍ عريض وأمامه كاميرا سينمائية، يأخذ الجمعُ إشارة من مساعد المخرج فيندفع بقوة باتجاه الكاميرا ليوحي أنه مهدّد بالقصف، ويولي الأدبار باحثاً عن مكانٍ آمن! فقط وجود المخرج المصوّر في المشهد، يفضح الدّجل كلّه الذي يُصدّر للعالم على أنه يجري في الواقع!
كلُّ الأفلام، طبعة الحرب على سورية، تُستعاد اليوم في “أوكرانيا” من دون جهد يُذكر في التعديل والتجديد و” الرّتوش” الضرورية وكأن الجمهور لم يتغيّر، وهو في الواقع لم يتغير لأن عالم الخديعة والدماء البريئة مازال بيد نفس المشغّل والطامع في ثروات هذا العالم!