«فانتازيا»

كثير من المهن البشرية تحتمل تعدُّد الأيدي!
في “الورشة” يشتدُّ النّشاط والتعلُّم والتنافس والتحفيز، عدا أن الورشة لها عندنا، تاريخياً، شيخُ كار ومعلّم ومتدرّبون وكل واحد في “موقعه” يلتزم حدوداً صارمة لا يمكن تجاوزُها! هكذا تألقت المهن الرفيعة في المعامل الصغيرة والدكاكين والمَشاغِل بنقل الخبرة الخالصة من جيل إلى جيل عبر أسلوب يشبه التقطير الشحيح قبل أن يُرسَّم المتدرب عاملاً في مهنة: نسيج النّول، الدامسكو، الحرير، الذَّهب والفضَّة، الزُّجاج، التَّطعيم بالصّدف والعاج، الصّباغة، النُّوغا، الحلويات، الرّسم على الخشب، الحفر على النُّحاس، التطريز، النّقش، الدّباغة، الخطّ، الفخار، الزّخرفة، الموزاييك، الفسيفساء، وكلها فرشت ملاءاتِها الشّفيفة على حياة الناس أرستقراطيين وبسطاء وجعلتهم عند المؤرخين، صناعَ حضارة لا تزول وربما بسبب ذلك عانت هذه الأرض من الأطماع، وليس بعيداً عن الذاكرة كيف أُفرغَت دمشق من صنّاعها وسيقوا تارةً إلى استانبول وتارة إلى سمرقند، أو كيف جُمعوا لبناء قصرٍ لهذا الباشا وذاك السُّلطان وإذ أعاد التاريخُ عبثَه واجتاحنا التّتار مجدَّداً اختلّ البنيان وباتت الفاقة تتمدّد، وعلى المرأة التي تلزم منزلها أن تجترح وسيلة للكسب، ومعها هبّ ما يُسمّى بالمشاريع الصغيرة ومتناهية الصِّغَر ولأجل ذلك عادت دُرجةُ الورشات للتمكين: الأغذية، الحلويات، الخياطة، قصّ الشعر، التزيين، الحياكة، الزراعة البسيطة، مجالسة الأطفال، رعاية المسنين والمرضى، صناعة الحقائب اليدوية، وكذلك الدُّمى، وكلها مهن تبدع بها المرأة في هذا الشّرق بحكم الموروث المديد وطبيعة الشغل نفسه، المتوائم مع ظروف الواقع، أما أن يخرج من فوّهة هذا البركان من يقول أو تقول: أقيموا للنّساء ورشات لكتابة القصة والرواية فهي الفانتازيا التي تتزيّا بالحكمة والسَّبْق في الحداثة، لأن كتابة الرواية لم تكن يوماً نتاج تعليمٍ في ورشات، ولم تحمل روايةٌ أو قصة أو قصيدة اسمَيْ مؤلِّفيْن أو أسماء مؤلِّفين! كان ذلك في كتابة سيناريو مسلسل، أو فيلم يَفصِل كاتبَ أحداثه عن كاتب حواره، أما بدعة صناعة روائيات وقاصّات فوراءها رسالة سياسية لا تمتُّ إلى الإبداع الأدبي بصلة!
تفصح الدعوة عن ضرورة تدوين قصص النساء في الحرب وعدم عزلهن في مهن مهينة وهذا يضع تلك القصص تحت تصنيف “الشهادات” وليس الرواية لأن فنّ الرواية صناعةُ الروائي الذي بلغ شأواً بعيداً في الرؤيا والرؤية والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ واللغة، وقراءة تجارب الروائيين والقاصّين تخبرنا أن “ورشات” تعليمهم كانت في تجاربهم الخاصة نفسها وهم يصوغون ويمزقون ويجادلون النقاد والقراء والإعلام، ويتجاوزون عملاً إلى آخر وليس في حضور ورشات تعلمهم كيف وماذا يكتبون، كما زعمت الدعوة “الفانتازيّة” لتخصيب الأدب بمثل هذه المحاولات التي ستكون خارجة عن المألوف مثل من دعا إليها لتكون “شهادات مضادة” لواقعٍ ناصع لا يحتمل أي سحرٍ أو تزوير!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار