زوايا…!

بعد أن رتّبَت البيت، وكم كان العثور عليه مضنياً في زيادة الطّلب وقلة المعروض، بدت محزونةً كالضّائعة في متاهة! قالت: إنها كمن يعيش في قبوٍ تحت الأرض برغم أن البيت في الطابق الثالث! صحيح أن النور يسطع من النوافذ العريضة لكنها لا ترى السماء قَطّ! البيت محوط بحلقة محكمة من الأبنية القريبة حتى يكاد الوقوف على الشرفة زيارةً غير مستحَبة للجيران الذين لا تعرفهم واختراقاً لخصوصياتهم، لذلك سارعوا إلى نصب «الشوادر» اتقاءً للعيون المتلصّصة على أصص أزهارهم والأدوات المبعَدة عن حمّاماتهم!. وهي لم تكن تقصد إلا النظر إلى زرقة السماء ونقاء غيمة عابرة!.
هي تعلم غريزيّاً أن العيش في بيتٍ مستقلّ يعني حفظَ الكرامة والحرية المطلقة لانسياب الروح مع البدن في حيّزٍ محميّ من التطفُّل كما هي أفكارها ومشاعرها التي لا تبوح بها إلا لأقرب المقرّبين إليها لذلك عمدت دائماً إلى العناية بمسكنها كما تعتني بذاتها! ولعلّها أجّلت بؤس مشاعرها إلى ما بعدَ ألفة المنزل الذي استأجرته مع ألف منّة من صاحبه وصاحب المكتب العقاري الذي سمعت منه أغرب لغة في الإغراء والتمنّع والرسائل المعلنة والخفية قبل أن يعطيها المفتاح! تقول: إن البيت فسيح وكسوته جيدة وشرفاته متعددة لكنه ناقص! لا يمكن أن يُشاهَدَ القمر منه ولا المطر ولا الغيوم التي لا تتعب من التّجوال في السماء، وهي لا تنال من الطبيعة إلا رشْحَها الخفيف يعلمها أن الصباح طلع وأن المساء قد حلّ وتتذكّر بيتها الصغير المتواضع الذي كانت تقف طويلاً على نافذته لترى بقعة صغيرة من السماء فيها غيمٌ وأسراب حمام وعصافير دوري ويمام يفتش عن رزقه على أطراف النوافذ، وكانت في كل وقفة تتمنى أن تتسع السماء حتى يعجز بصرُها عن اجتياز الأفق وما وراءه من مسرات غامضة، فكيف بها اليوم في هذه الزنزانة العالية الباردة؟ تقول وهي تُقفِل راجعةً من الشرفة إنها عوّدت نفسها على دراسة الزوايا في الأمكنة التي ترتادها لأن الزاوية تبدّل كل مشهد المكان، ففي المطعم تولي ظهرها للباب وتجلس في مواجهة الداخل لتستمتع بالتفاصيل: شكل الجدران وتوزيع الطاولات وحركة النُّدل وأشكال الزبائن، وفي الحافلة تجلس بمحاذاة النافذة لتتأمل تفاصيل الطريق، وفي المنتديات تجلس في الصفّ الأخير ينساب تحت ناظرها الداخلون والخارجون، وفي الحفلات تختار مكاناً منعزلاً لا يمرُّ فيه ذوو الحركة المفرطة بداعٍ وغير داعٍ. نعم! اختيارنا للزوايا مهمٌّ جداً! أتعرفين لماذا؟ تسألني وهي تبدل مكان الكرسي لتجلس قبالتي، وتستأنف: -الزاوية في الهندسة الرياضية تنتج عن التقاء شعاعين بنقطة، ولطالما بحثت عن نقطة اللقاء هذه حتى لا يضيع مني جمال العالم في غفلة من مهندسيه! وكم بودي أن أعاتب المهندس الذي صمم هذه البيوت البائسة في بلد الشمس الساطعة والسماء الزّرقاء الفسيحة، ولم يضعها في تصميمه المرتجَل أو غير المحترِف!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار