حبق

على زمان جدتي؛ في تلك الأرياف الناعسة، والتي كانت حتى مطالع ثمانينيات القرن العشرين، وقبل وصول الكهرباء إلى القرى السورية بقليل؛ تعيشُ على إيقاع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. هي الحياة تمشي وئيدة بذات الملامح الدهرية، وقلة من الحوادث التي كانت تستطيع أن تُحركَ قليلاً في المشهد الذي أمسى (ستوب كادر).
على زمان جدتي ذاك، وعلى زمان أمهاتنا القديمات؛ لم تعرف النساء حينها قوارير العطر، ربما باستثناء بعض العائدين من أمريكا اللاتينية الذين كانوا –على قلتهم– يأتون لنسائهم بزجاجات (المسك)؛ هكذا كانوا يطلقون عليها من أسماء..
غير أن جدتي، وأمي، وإن لم تعرفا قوارير العطر، ومعهن أغلب نساء تلك الأرياف، لم يعدمن وسيلة إيجاد العطر، وإن كان دون قوارير.. فعطر جدتي، وأمي، وجارتهن كنت أشعر به من مسافات، عطرٌ لا يخطئه أنفي أبداً.. إنه عبير (قطفات) الحبق، تلك التي كنّ يوزعنها في صدورهن، وذلك العطر الذي يوغل حدّ النشوة خلال الاحتضان.. ومن ثم صار لعطر الحبق تلك الذاكرة الدافئة، عطر يغمرك كحضن أمّ أو جدة، أمسى ذلك الأريج أشبه بلحافٍ دافئ مفعم بالحنان في ذاكرة من عاصر حبق الجدّات.. صحيح أن «عطر الجدّات» لم يقتصر على الحبق، فقد كان ثمة أنواع أخرى؛ غير أنّ الحبق كان الأكثر دفئاً وحناناً، فالحبق كائن مفعم بالمشاعر، لا يهدر عطره كيفما شاء، وكل ما يحتاجه مداعبة أصابع، أو احتكاك..
في جوار تلك البيوت الريفية؛ يصير (حوش الحبق) مُتمماً جمالياً أخضر لما حوله، وإن لم تتوافر تلك المساحة من الأرض المناسبة حول البيت العتيق، تتكفلّ “أصايص” الشبابيك والأدراج والشرفات المزروعة بالحبق بأخضر الحبق وعطره..
ويدخلُ الحبقُ نسيج النص الإبداعي الكتابي، وحتى البصري، وذلك بما تحملُ (المفردة) من طاقة هائلة قد تفوق عطر الحبق نفسه، وهذا صديقنا الفنان التشكيلي بديع جحجاح يصبح الحبق لديه مشروعاً جمالياً، يقول لي في ذات حوار: مشروع “حبق” عبارة عن تجلٍّ لنبتة “الحبق” بما تحمله من معانٍ متضمنة داخل هذه الكلمة بحيث عندما نجمع الحرف الأول والأخير منها؛ نحصل على كلمة “حق” وجمع الأول والثاني يكون الـ”حب” وعندما نعكس الكلمة يظهر “قبح” وهو ما جلبته الحرب على سورية عندما تمّ عكس المفاهيم والكلمات.. من هنا كان مشروع (حبق) كرسالة “حب وحق” لسورية تقول:”اعطني جملة تؤثر في وعي السوريين؛ أعطيك أصيص حبق” لتكون هذه الشتلة التي تسكن الذاكرة والنوافذ والشرفات السورية؛ عبارة عن سورية المكثفة بعطرها، وهكذا نحاول العمل على بعدين: انتشار الكلمة العطرة والنبتة العطرة..
هامش:
رغم
ثباته الشتوي الطويل،
ما زلتُ مؤمناً؛
أنَّ الحبق
حارسٌ وفيٌّ
لعطر النوافذ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
الاتصالات والعدل تبحثان آليات تحويل بعض الخدمات العدلية إلى صيغة إلكترونية عبر منصة «أنجز» ذهبية وفضيتان لسورية في الريشة الطائرة في بطولة العرب البارلمبية بكلفة تقديرية تتجاوز 347 مليار ليرة.. إجازة استثمار جديدة لمشروع مجمع سياحي في طرطوس الصندوق الوطني لدعم المتضررين من الزلزال يوافق على إطلاق المرحلة الثانية من الدعم مجلس الشعب يناقش مشروع قانون إحداث الشركة العامة للصناعات الغذائية وزير التجارة الداخلية يذكر التجار بمسؤولياتهم المجتمعية.. ويطمئنهم : مستعدون للحوار والنقاش حول أي موضوع والتعاطي بمرونة وفق الأنظمة والقوانين بعد ملفات الفساد والتجاوزات.. هجوم شديد من أعضاء محافظة حلب على بعض المديرين.. ومطالبات بالإعفاء والتقييم المستمر تجهيز مركز صحي جديد في ريف الحسكة تسويق القمح وانقطاع المياه والامتحانات  تستحوذ على مناقشات مجلس محافظة الحسكة سورية تؤكد دعمها لمبدأ “صين واحدة” وتدين التدخل الخارجي في شؤون بكين الداخلية