اليوتوبيا والتاريخ

اليوتوبيا أرض الحلم السعيد، مدينة السعادة المنشودة، هي ابنة التاريخ على الرغم من عدم تاريخيتها وعدم واقعيتها، وهي لذلك غير قابلة للتطبيق، بل مجرد تصور اجتماعي إصلاحي افتراضي، لهذا يرى رسل أنها مجرد غرائب أدبية، أضفى عليها الاحترام أسماء مشهورة، ولا ينظر إليها على أنها تقدم إسهامات جادة في المشكلات السياسية التي برزت في التاريخ الإنساني.

أول من استخدم هذا اللفظ كان توماس مور ( 1478- 1535 ) ولكن توجد تصورات قديمة تنطبق عليها حالة اليوتوبيا، مثل كتاب “الجمهورية” لأفلاطون، والمدينة السعيدة عند الفارابي في القرن الرابع الهجري. اليوتوبيا هي ابنة العصر الذهبي للأحلام، وعادة تنشأ هذه التصورات الحلمية في ظروف صعبة تمرّ فيها البشرية، إذ ينبري الحكماء والمصلحون للتدخل من أجل الخلاص من الشرور القائمة.. في عصر أفلاطون كانت اليونان تمر بمرحلة تدهور بعد الحرب بين أثينا وإسبارطة، وهزيمة أثينا (الديموقراطية).
اليوتوبيا، كمفهوم، تعني المجتمع المثالي الذي تتحقق فيه العدالة على أكمل وجه، مجتمع خالٍ من الشرور و الظلم، وكلُّ فرد فيه يشعر بالرضا، والمفارقة اليوم أن كلَّ من يكتب أو يتحدث عن الإصلاح يوسم بالخيالية وبأنه ضحية تصورات يوتوبية غير واقعية أو أنه رومانسي حالم!
لكن، أليس للحلم قيمة ثقافية و واقعية؟ وهذا النوع من الأحلام هو نوع من أحلام اليقظة العقلية لأنه يروم سعادة البشر عامة، وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى جمهورية أفلاطون المثالية إلا أنها لا تزال تُقرأ بجدية واحترام إلى يومنا هذا، وحظيت بالإعجاب والتفاعل بين القراء والمفكرين والفلاسفة، واستمر المصلحون والحالمون يظهرون بعد أفلاطون إلى يومنا هذا!
نظر الاشتراكيون إلى اليوتوبيا على أنها قاصرة ولكنها مشروعة، وكانت بمثابة بداية أو مقدمات للتصور العلمي للاشتراكية التي وصفت أيضاً بأنها مثالية، وكانت تعد بأكثر مما تستطيع أن تقدم، ولهذا انهارت التجربة الاشتراكية العالمية في القرن العشرين على الرغم من وصول دعاتها إلى الحكم، لتعزز الاعتقاد أن تحقيق اليوتوبيات في الواقع أمر صعب إن لم نقل إنه مستحيل.. وفي تراثنا كانت لنا مساهمة في الطوباويات التاريخية، وعند أي حديث عن المدن السعيدة تبرز بقوة مدينة الفارابي في كتابه ” آراء أهل المدينة الفاضلة” وضع فيه المعلم الثاني خلاصة فكره السياسي والاجتماعي والمعرفي، وكان “أخوان الصفا” قد قدموا تصورهم عن إصلاح العالم.
كتب الفارابي كتابه في مصر، تطويراً لرسالة كتبها في بغداد ودمشق، وكانت القلاقل والاضطرابات والاقتتال تعمُّ المدن الإسلامية، وتتعرض للغزو الخارجي. أراد الفارابي أن يصلح زمانه الفاسد، السعادة عند الفارابي لا تتحقق إلا بالاجتماع، وفي مدينة فاضلة إذا تحققت فيها السعادة للجميع، والمدن عند الفارابي هي أنواع وأصناف؛ مدينة فاضلة، مدينة جاهلة، مدينة فاسقة، مدينة ضالة، وبين المدينة الفاسقة والمدينة الضالة، تقع المدينة المتبدلة.
المدينة الفاضلة هي المثلى التي يصبو إليها الحكماء والعقلاء، أما المدينة الجاهلة فهي مدينة الواقع! والواقع على كل حال وعلى الرغم من كلِّ ما فيه من شوائب يمنحنا أملاً في التحسن، ويبقى ثمة حيز للحلم.
لقد تعددت الفراديس الأرضية المتخيلة في حضارات البشر، وما يؤسف له أن أحداً لم يبلغ هذه الأرض السعيدة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار