خصوصية أم مشروع؟

احتدّ الجدل بين المحاضِرِ وسيدةٍ من جمهور المستمعين، بعد انتهاء المحاضرة التي تناولت حركةً فكرية أوروبية صعدت أواخر القرن العشرين وتركت أثراً عميقًا لدى “المثقّفين العرب باعتبار أن المحاضِر مهتمٌّ بالتيارات الفكرية التي تجتاح الأمة العربية دون غيرها بسبب خصوصية هذه الأمة في كل مرحلةٍ من مراحل وجودها التي تتعرض للغزو العسكري ومعه الغزو الفكري والثقافيّ! اعترضت السيدة على آراء المحاضِر واعتبرتها خارج سياق النقد، واقتحاماً للحياة الخاصة لأديبة مجدّدة أحبتها وقرأت مؤلّفاتِها وتأثرت بها بشدة، وتجاوزت هذا الموقف حين اتهمت المحاضِر بأنه ضيقُ الأفق ومتحامل على فكر لمجرد أنه أنثويّ!
كان الجدل يجنح إلى أمكنةٍ مختلفة في الاستدلال، لذلك ستتعارض الرؤى وتضطرب النتائج ويغدو الفالق الفكري بين المتجادِليْن واسعاً بلا حدود! أما خلفية كل هذا فكامنةٌ في البنية الثقافية المبنية عند كلّ واحدٍ منهما على منهجٍ خاص!
كان عليّ أن أستبين الخطوط الفاصلة بين التدخُّل في الحياة الشخصية للأديبة المجدّدة وكذلك للمفكّر الذي عاشت معه بالمعنى الحميم والمعنى الفكري، وبين ما تحرّك من ساكنِ الفلسفة في ذلك العصر وما تركه من تأثير بالغ في العقول والمؤلفات العربية، التي تفضي غالباً إلى عطالة طويلة في أمة هي أحوج ما تكون إلى فكر حيويٍّ تنويريٍّ ينهض بها من دون جلد للذات أو استهانة في القدرات، ولطالما تمّ خلطٌ بين السيرة الذاتية الحياتية لمبدعٍ وبين تأثيرات إبداعه في المجموع البشري! ولم يُترك مجالٌ للحضور لبلورة فكرة مثمرة من هذا الجدل، ولو أنه تمّ، كان الأَوْلى ذكرَ مفكر، من جنس الأديبة والفيلسوف، هو “فولتير” الذي لم يتسلَّ برواية الخرافات والأساطير في أحد كتبه، بل أنصف العرب وثقافتهم بقوة أفكاره وجزالة أسلوبه وجرأته الفائقة في زمنه، بحيث لم يفكّر القارئ بأسلوب حياته، ولا بعدد النساء اللواتي عرفهن أو جمعهنَّ في بيت علني أو سري، بل رأى مشروعه الإنسانيّ واضحاً مبنياً على منطق ومعرفة! وغير “فولتير” كثيرون في ثقافات الشعوب، فمزاج الكاتب والمبدع قد يجد الاستطراف والاهتمام، عدا أن يكون مشروعاً مقصوداً له أهدافٌ بعيدة يُشتغَل عليها، وفيما كان الكتّاب والفنانون ينتصرون، في زمن مضى، لقيم شعوبهم مع القيم الإنسانية الجامعة، دخلنا في عصر من أقوى سماته ما يُسمّى بـ “الحرب الناعمة” وهي ليست ناعمة إلّا بحروف تسميتها، فإذا ما انصبَّ النقد الواعي عليها وأظهر أنها مشروعٌ بعيد المدى، فلا بدَّ من تبنيه ونبذ تسميته بالخصوصية التي لا تهم إلّا صاحبها!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار