يُخرِج منظومة التحكيم المحلي من مصيدة المماطلة الشكلية ويفعِّل دور النظام القضائي الخاص.. التحكيم التجاري الدولي وسيلة للاندماج في الاقتصاد العالمي

تشرين- حيدرة سلامي:
كانت النزاعات التجارية، بما تحتاجه من سرعة ومرونة في إنهاء النزاع ضمن فترة زمنية محددة، أحد أهم الأقطاب التي اجتذبت عمل المحكّمين التجاريين والدوليين في الآونة الأخيرة، حيث يتسم التحكيم الدولي بتطبيقه قوانين المعاهدات الدولية، وهو بذلك يتجنب إخضاع موضوع النزاع بين الطرفين إلى أحد قوانين طرف دون آخر، وهو بذلك أكثر عدالة وقدرة على تحقيق التناسب في إيجاد الحلول بين الأطراف المتنازعة.

تخضع النزاعات التجارية لشركات الأموال في سورية عرفياً إلى الاختصاص القيمي لموضوع النزاع

التحكيم التجاري ضمن الساحة المحلية

يعرّف القانون السوري التحكيم التجاري بشكله التقليدي، بأنه: أسلوب اتفاقي قانوني لحل النزاع بدلاً من القضاء، سواء أكانت الجهة التي ستتولى إجراءات التحكيم بمقتضى اتفاق الطرفين منظمة أو مركزاً دائماً للتحكيم، أم لم تكن كذلك.
وتخضع النزاعات التجارية لشركات الأموال في سورية، عرفياً إلى الاختصاص القيمي لموضوع النزاع، حيث تعتبر شركات الأموال أن الاختصاص للتحكيم الدولي أو المحاكم الدولية يقع فوق خط المليوني دولار، بينما تكون النزاعات الأقل من ذلك المبلغ تحت سلطة اختصاص المحاكم المحلية والتحكيم المحلي.
وبالدراسة الميدانية فنحن نجد أنّ دعاوى التحكيم المحلية بطبيعة الحال تعتمد نص المادة 66 من القانون رقم 51 لنظام العقود في الجمهورية العربية السورية لعام 2004 والتي تنص بأن القضاء هو المرجع المختص للبت في كل نزاع ينشأ عن العقد.
وكذلك عملاً بالمادة -1-5- من قانون التحكيم لعام 2008، لطرفي التحكيم حرية تحديد القانون الذي يجب على هيئة التحكيم تطبيقه على موضوع النزاع، وإذا اتفق طرفا التحكيم على إخضاع العلاقات القانونية بينهما لأحكام العقد النموذجي أو اتفاقية دولية أو أي وثيقة أخرى، وجب العمل بما تشمله هذه الوثيقة من أحكام خاصة بالتحكيم.

لا بدّ من اعتماد حلول قانونية أكثر بساطة ومراعاة لما تقتضيه ضرورة الوقت الراهن مثل مكافحة ظاهرة التسويف في المعاملات

التحكيم التجاري على الساحة الدولية
الآن تقوم لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (اليونسيترال) برسم خط جديد للتعامل مع التقنيات الحديثة في مجال التحكيم الدولي.
حيث انعقدت الدورة ٥٧ للجان الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (اليونسيترال) في السادس عشر من شهر تموز الحالي في نيويورك، وحدد الهدف من هذه الدورة لإيجاد صيغة تبحث مواءمة التطور التقني القادم مع النصوص التقليدية القائمة، فقد اعتمدت اللجنة على أربعة نصوص جديدة لتنظم هذا الإدخال التقني.

ويمكن تلخيص هذه النصوص في: قانون تنظيم العمل بين لجنة اليونسيترال/ ومعهد اليونيدروا النموذجي، أي بين لجنة التجارة الدولية المشتركة اليونسيترال، والمعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص (اليونيدروا)، وهو مؤسسة تسعى لتوحيد النظام التجاري و توحيد القانون الخاص حول العالم.
وقد أُعد قانون اليونسيترال النموذجي بشأن وصل الاستلام الإلكتروني في المستودعات، وهو مستند يؤكد نقل البضائع لحفظها إلى مستودع تابع لمؤسسة خارجية، ويعتبر بشكله الورقي حالياً أساس عمليات انتقال البضائع والتخزين حول العالم، ويوفر هذا الاتفاق، نظماً قانونية قادرة على تغطية جوانب القانون الخاص لنظام إيصالات إلكترونية في المستودعات، وذلك ليتم اعتمادها كنموذج عمل مشترك من قبل الدول التي تسعى إلى إصلاح تشريعاتها في هذا المجال. وهي تتوخى إصدار ونقل إيصالات المستودعات الورقية والإلكترونية على حدٍّ سواء على أساس مركزي ومحايد من الناحية التكنولوجية.

حالياً الخصومة ضد مؤسسات الدولة تكاد تكون شكلية والضرر عليها كبير حيث إنّ عليها أن تدفع التزاماتها مضاعفة للمقاولين إضافة إلى تعطيل مشاريعها الاستثمارية

لتقلل بذلك من ظاهرة الاحتكار التكنولوجي، حيث إن بحث هذه اللجنة سيتيح استخدام السجلات المركزية ودفاتر “الأستاذ” الموزعة والمنصات والتقنيات الأخرى، من قبل جميع البلدان التي تعاني من النقص في هذه التقنية.

وثانياً، سيتم الاعتماد على قانون اليونسيترال، بشأن التعاقد الذكي، ويوفر قانون اليونسيترال النموذجي بشأن التعاقد الذكي إطاراً قانونياً لتمكين استخدام الأتمتة في العقود الدولية، بما في ذلك نشر الذكاء الاصطناعي و”العقود الذكية”، وكذلك في المعاملات من آلة إلى آلة. والغرض منه هو استكمال القوانين القائمة بشأن المعاملات الإلكترونية، ولاسيما تلك المستندة إلى النصوص القانونية المتعلقة بالتجارة الإلكترونية.
كما اعتمدت اللجنة، ثالثاً، من حيث المبدأ النظام الأساسي، “المركز” The Centre, وهو عنصر آخر من عناصر الإصلاح الأوسع لنظام تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول.
ورابعاً، يتم تقديم بنود نموذجية معتمدة لأجل ضمان التسوية السريعة المتخصصة للمنازعات ما يمكن أن نطلق عليه “بنود نموذج SPEDR”، والذي يعتمد على قواعد التحكيم المعجل، ويقدم حلولاً مخصصة للأطراف المتنازعة مع أربعة بنود نموذجية. لاسيما عندما يتعلق الأمر بالسرعة، أو الخبرة الفنية أو البيانات السرية المتعلقة بالعوامل الحاسمة، حيث توفر شروط SPEDR النموذجية للأطراف وسائل مخصصة لتسوية النزاعات بطريقة سريعة، ما يضمن نزاهة وفعالية في حلِّ النزاعات الخاصة بهم.

العمل المستقبلي
واتخذت اللجنة عدة قرارات بشأن توزيع العمل المستقبلي على مؤسساتها وفرقها العاملة وأمانتها، حيث كلفت اللجنة الفريق العامل لديها، بأن يعترف على قرارات التحكيم الإلكترونية وأن يضع الأسس القانونية لتنفيذها.

والحقيقة أنّ كلّ بند من هذه البنود سيكون لها أثر كبير على تغيير منظومة التحكيم التجارية في العالم.

منظومات قانونية يجب تحديثها
عندما كانت الإجراءات الطويلة لتحصيل الحقوق المكتسبة للمواطنين، تقف حائلاً بين تطبيق القانون وبين انتفاع المواطنين بهذه الحقوق، فإن هناك حاجة شعبية تستحق أن توضع في عين الاعتبار حين نتحدث عن توسيع اختصاص النظام القضائي الخاص، أي التحكيم.

التحكيم القانوني غير قادر أن ينوب في دوره عن المؤسسات القضائية في حلِّ النزاعات الناشئة بين الأفراد والمؤسسات

فلا شك أن تحديث القضاء وإدخال نظم التقانة الحديثة إليه، لا يخفي صعوبة إجراء تغيير جذري وفوري لمنظومة العمل المكتبية التقليدية في بلادنا، فعلى الرغم من أهمية الانتقال إلى استعمال أدوات التقانة الحديثة، فلا بدَّ أيضاً من اعتماد حلول قانونية أكثر بساطة ومراعاة لما تقتضيه ضرورة الوقت الراهن، من مكافحة ظاهرة التسويف في المعاملات، ولذلك فقد كان محل الأنظار هو توجه عدد كبير من الأفراد المتخاصمين أمام القضاء العام إلى فرع آخر من القضاء الخاص، وهو التحكيم التجاري والمدني، وإن كان ذلك يعود لشيء فهو عائد لإجراءات التقاضي، التي تهتم عادة باستكمال شكليات الدعوى على حساب البحث في موضوع الخصومة، فنرى الشكليات التقليدية، كتبليغ الخصوم أو الإشكالات التنفيذية البسيطة التي لا تغير القوة القطعية للحكم، ولكن تستهلكه من حيث الوقت والفائدة، فلا شك أن إهمال اللعب على عامل الوقت قد كان له آثاره السلبية، حيث تحولت الجدوى القانونية، في كثير من الحالات إلى كلام على ورق، وذلك عدا عن كون الطريق في تحصيل الحقوق من خلال هذه الشكليات الرسمية في العمل، أمر محفوف بالمخاطر والحسابات الطويلة، وبعض هذه المخاطر تظهر حتى بعد حصول الأطراف على الحكم المبرم، كالإشكالات التنفيذية التي تمنع تطبيق نصوص الأحكام القضائية.

تسوية المنازعات الاستثمارية
وفي أغلب الأحيان تعمل لجان التسوية من الخبراء إلى تقريب وجهات النظر الأطراف المتنازعين، قبل الوصول إلى الطريق القضائي أو إلى التحكيم الاتفاقي.
وعلى العموم تستغرق المنازعات وقتاً طويلاً، حيث يمكننا القول إن التحكيم التجاري وقع في مصيدة المماطلة القانونية، فالوقت غالباً يسري لصالح المقاول ولاسيما في ظل التضخم، حيث إن الالتزامات لصالح المقاولين لا يتم دفعها غالباً في موعدها المحدد وذلك على الرغم من اقتناع المؤسسة من استحقاق الالتزامات المالية، إلّا أن الامتناع عن الدفع يتم عادة بسبب شكليات الدفع من المؤسسات الحكومية، حيث إن إضافة أي تعديل على بنود الإنفاق في ظل التضخم، يتطلب غالباً موافقة جهة أعلى من المؤسسة الإدارية المعنية، لأجل الأمر بالصرف كرئاسة مجلس الوزراء على سبيل المثال، فغالباً ما تأتي هذه الموافقة بالاجتماعات الدورية للمجلس التي قد تأخذ وقتاً طويلاً.
وبذلك يمكننا القول في ذلك الخصوص، بأن الخصومة ضد مؤسسات الدولة تكاد تكون خصومة شكلية، وأن الضرر على المؤسسات في هذه الحال كبير، حيث إن عليها أن تدفع التزاماتها مضاعفة للمقاولين إضافة إلى تعطيل مشاريعها الاستثمارية لفترة طويلة الأمد، ما يستهلك الجدوى القانونية من اتباع طريق التحكيم التجاري في النزاع.
نشهد في الآونة الأخيرة انتشارًا واسعاً لشركات التحكيم القانونية والتجارية في سوق العمل السورية، حيث إن ثقافة التحكيم بدأت بدفع المتخاصمين في المحاكم الوطنية، إلى البحث عن بدائل قانونية منظمة، حيث إن النزاعات المدنية بين المتخاصمين، قد بدأت أيضاً تدخل إلى منظومة التحكيم القانوني، وبدأ المواطنون يعملون بثقافة التحكيم السلسة، عوضاً عن الخوض في المنازعات القضائية طويلة الأمد.
فرغم أن المنازعات التجارية كانت الأساس، في ظهور التحكيم القانوني، نظراً لما تتطلبه عادة من سرعة في فصل القرار وتنفيذه، وذلك خشية من أن يتم إيقاف النشاط التجاري لفترة طويلة، أو إزاء القلق من ممارسة النشاط التجاري لفترة طويلة أثناء النزاع القانوني، والسبب في ذلك يعود إلى أن النظام القضائي التقليدي، تسوده حالة من التحدي بين الخصوم، حيث يسير الأفراد المتخاصمون عادة في تعطيل الإجراءات القضائية بمواجهة بعضهم البعض فتسير الدعوى لفترة طويلة، بينما يسود الأطراف عادة في التحكيم التجاري، حالة من التفاهم المتبادل بين الخصوم، فلا يسعى الأطراف إلى تعطيل عمل لجنة التحكيم، لأنهم يدخلون على هذه اللجنة بأمل أن تبت في النزاع القائم أمامها على وجه السرعة، ولأن التحكيم بشكل عام هو علاقة قانونية اتفاقية بين الأطراف، يسعى فيها أطراف النزاع إلى الوصول لحل مناسب متوسط في الالتزامات بين بعضهم، أي أنه اتفاق موجود بناء على تفاهم الأطراف للوصول إلى حل يقبلونه، أما اللجوء إلى القضاء المدني فرغم أنه حق متاح أمام جميع الأفراد، إلّا أنه حل متاح على رغبة أحد أطراف النزاع وهو المدعي الذي يدعي على المدعى عليه، فلا يكون عندها أيُّ تفاهم مسبق بين الأطراف قبل الدخول في النزاع القضائي.

لا بدّ من إعادة تصميم أنظمة القانون المدني والتجاري والصناعي وغيرها من أجل سنِّ قانون نموذجي يستوعب مختلف النظم القانونية الجديدة القادمة

وليس معنى ذلك أن التحكيم القانوني هو قادر أن ينوب في دوره عن المؤسسات القضائية، في حل النزاعات الناشئة بين الأفراد والمؤسسات، ولاسيما في وجود عدد كبير من الأفراد الذي لا يرون لهم مصلحة في اللجوء نحو طريق التحكيم، حيث إن التحكيم هو إنفاق يتطلب التقاء إرادتين، فيجد الكثير من المتخاصمين أن المحاكم العادية، هي أكثر مرونة واستجابة لمصلحتهم، فيرفضون الخوض في التحكيم المشترك.
وأما عن القوة الإلزامية وحجية قرار المحكمين فيعتبر حكم المحكّمين حكماً له من القوة والإلزام ما يساوي القوة الرسمية في قرار المحاكم، لكونه مستمداً من حق دستوري أصيل للمواطنين في تنظيم أمور حياتهم، وهو حقهم بالتعاقد.
ويتطلب حكم المحكّمين في القضايا المدنية، الحصول على القوة التنفيذية بعد صدوره عن لجنة التحكيم، ويكتسب الصيغة التنفيذية من قبل دائرة التنفيذ لإمكان تنفيذه جبراً على الممتنع من الامتثال لقرار المحكمين، فيكون بذلك سنداً تنفيذياً قابلاً للتنفيذ مباشرة، من دون المرور في المحاكم العادية.

ويمكننا القول إن هذه الدورة كانت تحمل بوادر التغيير على العالم، و من المتوقع بناء عليه أن يتم فتح بوابة كبيرة من الاستثمارات التقنية في العالم.
فما هي قدرتنا الفعلية على الصمود من أجل مواءمة الفوارق القانونية المحلية مع الاتجاهات الدولية؟، وفي ضوء التحديات التي تفرضها التقنيات الناشئة، فلا بدّ من التساؤل عن قدرة الأحكام والأعراف التجارية في بلادنا لتندمج ضمن هذه المنظومة العالمية القائمة والتي ستكون لديها القدرة على الفصل في الأشكال الجديدة من المنازعات.
ولذلك وللسير في منظومة الدمج، فلا بدّ من أن تتم إعادة تصميم أنظمة القانون المدني والتجاري والصناعي وغيرها في بلادنا، من أجل سن قانون نموذجي يستوعب مختلف النظم القانونية الجديدة القادمة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار