تجلس الصبية، مثل موديل عيادة التجميل: بأناقة وتسريحة مَلكيّة وإكسسوارات براقة و وشوم فوق العينين وتحت العنق وعلى الرُّسغين، ثم تبادر المتابعين بقصيدة تتبعثر كلماتها المشتّتة في حركات تشبه تدريبات الرقص قبل الانضواء تحت قواعد أي مدرسة! فلا هو رقصٌ شرقي ينتمي إلى ثقافة مجتمعها، ولا هو تانغو ينتمي إلى ثقافة مغترَبها، ولا هو هنديّ يؤدي صلوات مقدسة! كل كلمة ترافقها إيماءة بالرأس أو العنق أو الأصابع أو بالخصر!
“الشاعرة” ليست على منبر اعتاده الشعراء في المراكز الثقافية أمام جمهور يصغي ويتفاعل، بل على كرسيٍّ أنيق في غرفة فسيحة واسعة النوافذ، وإحدى هذه النوافذ مفتوحة على عالم «الفيس بوك» حيث لم يعد الجمهور نوعياً للاستماع إلى الشعر كأنه قادم للصلاة في كنيسة أو مسجد، فهنا سيكون على شاكلة القصيدة التي يستمع إليها! وجوه من بلدان شتى ومدائح تفوق ما قاله النقاد في شعر “الخنساء” و”رابعة العدوية” و”ولادة بنت المستكفي” واقتباس لما قيل هنا وهناك عن شاعرات تركن بصماتهن على العصر الذي يعشن فيه مثل “أليزابيتا باغريّانا” و”غابرييلا مسترال” و” آنا إخماتوفا” وحين كنت أقرأ التعليقات لم يغادرني تساؤل: -ما حاجة المرأة الجميلة لأن تقتحم عالم الشعر بالذات وهي لا تملك فيه أدنى أدواته، لماذا تغادر ميداناً قد تبرز فيه بعمليات التجميل والأزياء والحفلات وتأتي إلى هذا الأدب العسير بشروطه وقواعده؟ ومن ذاكرتي المعتمة خرجت شاعرة كانت قد نزلت عن المنبر لتوها وسمعتني أذكر قصيدة أخّاذة لـ “ديك الجنّ الحمصي” وسألتني بكلّ جدّية: -من هو؟ لم أسمع به من قبل!
في عالم موازٍ لعالم الشعراء الذين يمضون عمراً وهم يقلّبون الجمر بأصابعهم ويكتبون القصائد المخفية في دروج مكاتبهم لأنهم لا يرضون عنها، ويخوضون ماءً لا يعرف إلا الخالق مدى عمقِه والفجوات التي يتجاوزونها قبل الوصول إلى شاطئ مفردة أو معنى، في عالم موازٍ لهؤلاء ماءٌ ضحضاح تتجرأ على الخوض فيه أقدامٌ حافية، وتستمرُّ في المشي لأن هناك من يصفق لشِعرها وكأنه شَعرُها الذي أتقنت تصفيفه بخبرة عالية!
أعود لمشاهدة “القصيدة”، وهذا يُحسب بين عدد المشاهدات ويُعد إيجابياً لصاحبته في العالم الأزرق العجائبي، كمن يريد طرد بعوضة تطنُّ حوله! حسناً! البعوض أيضاً يسكن الماء الآسن، وكذلك يتكاثر النبات الطفيلي في غابات الصنوبر والأرز والسنديان والغابات المطيرة حيث لا حساب لماء المطر الذي يسقي الثابتَ الراسخ والطفيليّ الطارئ وشتان بين هذا وذاك…