أن يُقال “إبرة في كومة قش” هو تصوير للعسر أو للعبث أو للمستحيل، فمن هو صاحب هذه المقولة؟ فلاحٌ أضاع إبرةً في دريسٍ عالٍ بعد الحصاد؟ ولماذا يملك الفلاح إبرة وهو يقصُّ الأرض ويرتقها بالمحراث أو المعول؟ أقالها خيّاطٌ؟ والخيّاط في مشغله محوطٌ ببقايا القماش والخيطان المشربكة حيث لا قشٌّ ولا دريس! .
تتباعد المهن في هذه “المقولة” تباعدَ السماء عن الأرض، لكنها شديدة التعبير عن الحالة النفسية لكل ذوي المهن حين يقفون أمام معضلةٍ لا يستحيل حلُّها، لكنه يصعب دون شك، وقائلها حكيمٌ مزجَ ما لا يمزجه كيميائيٌّ حاذق! وما غيرُ المجاز قادرٌ على هذا المزج العالي للتجارب الإنسانية الواسعة العصيّة على الخضوع لأي قانون ثابت؟ ولطالما وجدنا أنفسنا أمام هذه التجربة نبحث عن إبرتنا في كوم قشٍّ يبدو تفكيكه كالسراب أو كشعور الأمل الضعيف في لجّة نفسٍ تجتاحها العواصف! الإبرة موجودة لكن كيف نطولها وكم من الوقت ستستنزف من حياتنا وطاقاتنا؟ وهل يبقى إصرارنا على العثور عليها متّقداً كضوء في آخر النّفق؟ بلى! قلةٌ من البشر يملكون هذا المسار المضني إما في اختراعاتهم أو في عياداتهم الطبية والنفسية حيث لا بدّ من الاستقصاء الدقيق للعثور على الإبرة، مفتاح الحل، لكن أن يعمد مغامر إلى هذه التجربة وينقلها من المجاز إلى الواقع فمسألة طريفة تستحقُّ الالتفات إليها كالصعود إلى قنن الجبال العالية أو الغوص في أعماق البحار أو ابتلاع النار، وكذلك أن يستخدمها كاتبٌ تضيع إبرةُ بطله فلا يعثر عليها إلا طفلٌ كطفل “أندرسن” الذي خاطب الجمهور بأن الملك عارٍ من ملابسه، وما هذا القول إلا تعبير عن الحقيقة الصّادمة !
في مواقف كثيرة كانت الإبرة تخرج من كومة قش من ذاتها دون بحثٍ عبثيّ أو مطوّل: بين أكوام الكتب المكدسة على الرصيف يرقد كتابٌ ثمين منسي. بين الجموع الغائمة يبدو وجهٌ إنسانيٌّ مضيء. بين المتحدثين العشوائيين تُسمع حكمة بليغة، على الجليد المديد تبرز زهرة متفتحة، في سجف الليل الحالكة تلمع نجمة. في عزلة حزن عميق يمرُّ طيفُ حبيب، في صهد الظهيرة تعبر نسمة رطيبة، في لهيب الاشتياق تصل رسالة مفاجئة، وفي أرض جافة دمعة نبع خفيّ.
الفرح الذي ينتابنا حين العثور على الإبرة ينسينا قطعاً أن من طبائعها “الوخز” المؤلم وأن هذا الوخز يتفرّد بمقدار المساحة التي يصيبها ومقدار الدم الذي يستجيب له لأن وعودها بالنسج والرتق والتطريز تعوم على ألف وعدٍ وأمل!.