“كلُّ الذين يكتمون عواطفهم بإتقان، ينفجرون كالسّيل إذا باحوا وها أنا أبوح وأكتب عن مسقط قلبي دمشق!”
بهذا تفتتح الكاتبة السورية الكبيرة غادة السمّان كتابها “رسائل الحنين إلى الياسمين” الذي صدر بطبعتين: 1996 و2002، وذكْرُ تاريخ الإصدار لزوم ما لا يلزم لأن السّيل الذي تحدّثَت عنه هو بيت القصيد، وهو الذي يستوقف القارئ عند ظاهرة التراسل عند الأدباء والأعلام!
يكتب الروائيّ عشرات الروايات وكذا القاص والشّاعر، يكشف أفكاره ونظرياته ومواقفه وموقعه في الزمان والمكان، لكنه ما يلبث أن ينعزل مع حبره وقلمه ويدير ظهره للعالم ليكتب شيئاً متحرراً من القوانين التي ألزمته بها الكتابة للقارئ، لكن رسائله مهما كانت بوحاً لقريب لن تدخل في ذلك العالم الظليل الذي كُتبت في رحابه رسائل المحبّين والعشاق والمشتاقين والمتباعدين طوعاً أو قسراً، لأن الرّسالة في أصلها صوتٌ داخليٌّ لا يجرؤ صاحبها على قول كلماتها للمُرسَل إليه، حتى لا يرافقَها التلعثم وتفضحها رجفة الصوت وخفقان القلب والإشاحة بالنظر، وهي بالأصل صندوق أسرار بين اثنين، إذا شمّت كلمةٌ منه رائحةَ الهواء في العلن، صارت مثل عطر قارورة انكسرت سدادتُها و”ضاعت” وتفرّقت بين غير أهلها! وحكايات رُزم الرسائل المحفوظة في الصناديق هي من موروثنا الشعبيّ الحكائيّ مثل جواهر الجدات الثمينة، تستذكر الزمن لكنها لا تعيد تفاصيله!
خارج القصة والرواية راسلت “غادة السمان” مدينة دمشق رغم كل ما كتبت عنها في أعمالها، وكذلك فعل العلامة “محمد كرد علي” مع الأب “أنستاس ماري الكرملي” والرّوائيّ الكبير “يحيى حقّي” مع ابنته “نهى” و”ليف تولستوي” مع ابنته “ألكسندرا” و “هيرمان هيسه” مع شاعرٍ شاب، وسيقتحم “جبران خليل جبران” و”ميّ زيادة” ورسائلُهما أيَّ ذكرٍ للرّسائل وأصحابها لأن عناية التاريخ كانت فائقة بهذا الثنائي المبدع، لكن القارئ سيلحظ أن كلّ هذه الرسائل لن تعبر صناديق البريد ولن تتسرب إلى يدين وحيدتين وعينين باحثتين عن الحروف تحت قنديلٍ خافت! بل هي نصوص للنشر في أي وقت ولا حجاب يخفيها ليوقعها، مصادفةً، بين أيدي الفضوليين والمتطفلين!
لن ينجو الكاتب من رغبته في الاختفاء وراء وريقات رسالة مهما كان المُرسَل إليه خاصاً وحميماً، لأنه غادر موقع “الفردانيّة” بمشيئة أو بغير مشيئة وبات في أرضٍ فسيحة لا جدران فيها ولا أبواب ولا أقفال، فالرسائل التي طُبعت وقرأناها مروّسة بـ: “عزيزي أو عزيزتي، أما بعد… ” كانت دروساً في اللغة وطرائق كتابة الشعر وأصول العلاقات الأسرية والموقف الوجودي من الحياة، وكل هذه المسائل لم تغب عن أعمال كتاب هذه الرسائل التي كتبوها لحاجة ما، وما أجمل الإبداع في تصاريفه وطرائقه.