منطقةٌ واحدة… عدوٌ واحد
تزايد في الأيام القليلة الماضية الحديث عن وجود نشاط ملحوظ لتنظيمات «الحزب الإسلامي التركستاني» و«كتيبة الإمام البخاري» و«حراس الدين» الإرهابية في إدلب، مع وجود مؤشرات إلى إمكانية اندماج هذه التنظيمات ضمن تنظيم إرهابي واحد. ما يدفعنا للتوقف عند هذا الاندماج دوناً عن عشرات الاتحادات والانقسامات التي حدثت بين تلك التنظيمات الإرهابية المتواجدة على التراب السوري، هو أنّ الإرهابيين الصينيين والأوزبك والشيشان يشكلون السواد الأعظم لهذه التشكيلات، وأن ما يجمع تلك التيارات المتشددة هو ليس العقيدة والفكر السلفي فقط بل “القومية التركية” أيضاً مما سيجعلها أكثر ترابطاً وتماسكاً، وبالتالي ستكوّن خطراً محتملاً من الممكن أن تمتد آثاره إلى خارج الحدود السورية، وستشكّل سلاحاً جديداً بيد النظام التركي يستغله أبشع استغلال لنشر الفوضى في المنطقة، إذ إنّه يعمل جاهداً على استغلال القومية التركية لخدمة مشروعه التوسعي التخريبي في المنطقة، وهذا يعيدنا إلى نهاية العام المنصرم حيث عُقدت القمة الثامنة لزعماء “الدول الناطقة بالتركية” وشارك في القمة التي انعقدت في إسطنبول، رؤساء “أذربيجان”، و”كازاخستان”، و”قرغيزستان”، و”أوزبكستان”، و”تركمانستان”، ورئيس وزراء المجر فيكتور أوربان (بصفتها عضواً مراقباً)، والتي أعلَنَ في ختام أعمالها رئيس النظام التركي رجب أردوغان تحويل اسم “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية”، إلى “منظمة الدول التركية”، ولا نحتاج لكثيرٍ من التأمل لندرك أنّ الموضوع ليس مجرد تغيير في الاسم لأسباب إجرائية فقط بل هو تغييرٌ جوهري في الفكر والاستراتيجية، فإضفاء الصبغة التركية على مجموع هذه الدول التي تشكل حزاماً يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى روسيا والصين، ما هو إلّا خطوة متقدمة في إعادة إحياء الأحلام العثمانية للنظام التركي، وخاصة إذا ما أضفنا لهذه الدول، الأشخاص الذين ينتمون للعرق التركي في عدد من الجمهوريات الفيدرالية داخل الاتحاد الروسي، وإقليم تركستان الشرقية في الصين، وفي القرم، ودول البلقان، وسورية والعراق، والذي عزم النظام التركي في السنوات الأخيرة على اجتذابهم وإذكاء نار التفرقة بينهم وبين شركائهم في أوطانهم.
ربما يقول قائل هنا إن هذا “حق مشروع” لجميع البلدان في تكوين تحالفات وتوسيع مناطق نفوذها، ولكن المشكلة تكمن هنا في غايات هذا التوسع، وسبل تحقيقه، فالهدف مما تفعله تركيا في المنطقة هو نشر حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في بلدان المنطقة كي تستغلها لمآربها الخاصة، فعندما يكون تدمير البلدان والتدخل بشؤونها الداخلية بما يتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة، والشرعية الدولية، وتعزيز النزاعات بين البلدان هو السمة العامة للسياسة التركية هنا ندرك مدى خطورة ما يقوم النظام التركي الحالي، فلو نظرنا إلى خريطة المنطقة من ليبيا إلى حدود الصين وروسيا، فسنجد أنّ كل نقاط الصراع والتوتر يتداخل فيه الطرف التركي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
إن الخطر الذي بات يشكله النظام التركي بعقليته الحالية تجاوز حدوده إمكانية الاحتواء وأصبح من الواجب إعداد العدة لمواجهته سواءً من قبل دول المنطقة، ومن قبل الصين وروسيا أيضاً، فالتمدد التركي وصل ليعبث بأمنهما الداخلي فما يحدث في إدلب سينعكس في شينجيانغ، وما يحدث في ليبيا مرآته في أرمينيا والقرم، ومن يعتقد أن ما يقوم به النظام التركي مجرد أحداث وتصرفات عشوائية هو مخطئ جداً، فما يحدث هو مشروع مرسوم ومخطط له وحلم يعملون على تحقيقه، ففي تشرين الثاني المنصرم التقى رئيس النظام التركي أردوغان مع رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي المقرّب من أردوغان، وخلال اللقاء قدّم بهتشلي هدية تذكارية عبارة عن “خريطة العالم التركي” إلى أردوغان، متضمنة أجزاء من روسيا، منها شبه جزيرة القرم وإقليم الكوبان ومقاطعة روستوف وجمهوريات شمال القوقاز، إضافة إلى شرق سيبيريا، كما ضمت أراضي في البلقان وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان ومنطقة شينجيانغ الأيغورية ذاتية الحكم في الصين، وأراضي في منغوليا وإيران، حيث تسكن هذه المناطق مجموعات سكانية من القومية التركية، وفي ذات السياق كانت محطة «TGRT» التلفزيونية التركية، قد نشرت خريطة وضعها معهد «ستراتفور» الأمريكي، يظهر فيها تمدد النفوذ التركي لعام 2050، وضمت مناطق روسيّة كشبه جزيرة القرم وكوبان ومنطقة روستوف وجمهوريات شمال القوقاز، بالإضافة لدول من شمال أفريقيا ومنطقة بلاد الشام والخليج العربي كاملاً وصولاً إلى مصر وليبيا، باستثناء فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، كل هذه المؤشرات تؤكد أن ما يقوم به النظام التركي ليس مجرد تحركات عبثية يقودها أردوغان، بل مخطط مرسوم بدقة وبالاتفاق مع العدو الصهيوني، وهذا يحتّم علينا العمل على إيجاد مشروع مضاد للمشروع التركي التوسعي في المنطقة الذي يمثل تهديداً وجودياً لمعظم دولها، وهنا نجد أنّه لا بديل عن إعادة
إحياء المشروع القومي العربي لأنّه الوحيد القادر على إيقاف المد التركي في منطقتنا، ومجابهته فكريّاً وعقائدياً، ففي حين أننا نرى المحاولات التركية للبحث عن أي عوامل مشتركة مع شعوب المنطقة لجذبهم، فيستخدمون القومية التركية تارةً، والدين الإسلامي تارةً أخرى كمطية للوصول لأهدافهم التوسعية الاستعمارية، نمتلك نحن كعرب كافة مقومات الاتحاد ولكننا نفتقد للرغبة الحقيقية الجامعة، وهذا ما يتوجب العمل عليه في المرحلة القادمة، وخلق هذه الرغبة يجب ألّا يكون معتمداً على العاطفة فقط، بل يجب أن يبنى على أسس منطقية وعمليّة تظهر الأهمية والحاجة الحقيقية اليوم أكثر من أي وقت مضى لتشكيل اتحاد عربي فاعل يضمن المصالح العربية ويحمي دولها من الانهيار الناتج عن تمدد القوى الإقليمية في المنطقة، فالمطالبة اليوم بعمل عربي مشترك ليست رفاهية فكرية، أو تطلعات حالمة، بل هي ضرورة واقعية ملحّة، وخيارٌ لا بديل عنه.
كما يجب العمل بشكلٍ متسق مع كل من روسيا، والصين، وإيران لمواجهة هذا الخطر التركي المتنامي، وهنا يجب ألّا نترك مناسبة إلّا ونستغلها لإظهار حقيقة هذا النظام التركي وكشف مخططاته وأطماعه، من أجل خلق مزاج شعبي في المنطقة والعالم مناهضة لذلك النظام، فإن استشراف الخطر، والعمل الدؤوب على منع وقوعه هو السبيل الوحيد للنجاح، فالحق وحده غير كافٍ.