أقف وراء شباك المطبخ دَرْجاً للعادة! أتأمل الأشجار التي نجت من قذائف الإرهابيين وهي أكثر بهجةً من السور الذي أتلفته الفوضى والإهمال، ثم منعطف الشارع الذي يفضي إلى الساحة الصغيرة التي سُدّت فما عادت تعرف صخب السيّارات العابرة، وقبل أن أُقفل راجعة إلى الغرفة أتلبث قليلاً لسماع ثرثرة عصافير الدوري وهديل اليمام وفي خاطري ذلك الشحرور الذي يصدح في الربيع من كل عام!, وحيث غاب الدوري، ربما بسبب البرد، سمعت صوت صبيّ يخاطب طفلة! الصبيّ يطل من شبّاك طابقٍ ثالث والطفلة واقفة على الرصيف في الشارع، وكلاهما لا يريانني ولا أراهما، لكن طبقة الصوت واضحة وتسري بسلاسة بين اثنين لا يعترفان بالمسافات ولا بالخصوصية!.
قالت الطفلة: سأسمّيك قطة! قال من فوره: سأسمّيك كلباً!, وتتابع الحوار كأنه حوارٌ مسرحيٌّ محفوظ، لا تلكّؤ فيه ولا لجلجة بل تصاعدٌ كلُّه فرح وتحدٍّ ومنافسة! قالت: -سأسمّيكَ طائراً يريد مغادرة الشباك!
-سأسمّيكِ قرداً!
-سأسمِّيكَ ماءً!
-سأسمّيكِ مرحاضاً!
-سأسمّيكَ وردة!
-سأسمِّيك وحْلاً وطيناً!
-سأسمّيكَ سكّرة!
-سأسمّيكِ يوسف أفندي معفّنة!
لم آتِ بحركة حتى لا يشعرا أن هناك رقيباً يفسد هذا العرض العفوي، أو يستمع لحقيقة النَّفس الآمنة من تسلُّط الكبار! كنت أستمع إلى تغريدٍ من نوع فريد! الطفل صاحب بحّة الصّوت الواضحة الذي تجاوز السّابعة بقليل، والطّفلة التي لا أعرفها لكنني أحدس أنها في العمر نفسه، وهو تغريدٌ رغم مفردات الصّبيّ التي تنمّ عن عدوانيّة وإيذاء مشاعر ورصيد متجدّد من البذاءة، لم يفلح لدهشتي، في جعل الطفلة تبادله الشتائم أو تستعين بمفردات تشبه مفرداته! بينما كنت أرى عرضاً مدهشاً في الهواء الطلق، وأحاول ألا يفوتني تفصيل من الصّور المتتابعة التي تتلا على مسمعي!.
متى انتهيا من الحوار؟ لا أدري! لكن حواري الذاتي بدأ رغماً عني: هل الأنثى مهذبة أكثر من الذّكَر؟ هل تعالج الأنثى مواقف الحياة بغريزة الليونة لتحصل على ما تريد؟, هل تتقبّل الذكر بكل عيوبه حين يختارها فتتواطأ ضدّ نفسها مع الشريك؟, أم إن الأمرَ أبسط من هذا والمسألة: «عينُ الرضا عن كلّ عيبٍ كليلة»، بل تلامح لي الأمر أنه أبسط من البساطة! إنها التّربية المنزلية التي تغذّي اللغة, وتستجيب للمواقف بطريقتها الخاصة، فهذا الطفل الذي لا أختَ له، صغير الصبيان في بيتٍ لا يعرف إلا التعنيف والزجر والنّهر, ولطالما سمعت أمّه تصرخ في وجهه، وأخوه يضربه ضرباً مبرّحاً حين يتركهما الوالدان وحدهما، وإذ أتيحت له فرصة الوقوف على الشبّاك، لم يستطع أن يكون الطائر المتأهب للتحليق كما رأته الطفلة النديّة، أفرغ كلّ ما في نفسه من “طينٍ” و”وحل” وأصابني ببعض رذاذه: تأثيرات الحياة مركّبة جداً وحين تصيب لا تميز بين أنثى وذكر إلا بقوانينها الخاصة المُدركَة وغير المُدركة!