الكلمة الأولى!

يفتح القارئ الرواية أو القصة أو ديوان الشعر، فتبدأ فوراً اللعبةُ النفسية غير المدرَكة: هل أمضي بعيداً مع الأديب أم أنصرف عنه؟. يكون القارئ قد وضع قدمه على العتبة فإذا انفتحت البوابة على «فسحة سماوية» ووقعت العين على نوافير وعرائش وشرفاتٍ ومصاطبَ عليها أصصٌ مزروعة وهبّ نسيمٌ ناعمٌ يغري بروائح خفية غيرِ متوقّعة، دخل راغباً بالعزلة عن العالم وتقصِّي الأسرار السّحرية الكامنة في الورق، تلكَ «العتبة»، ليست العنوان، بل هي الكلمة الأولى التي يفتتح بها الأديب نصّه! ولعبة الكلمة الأولى تختلف عند الأديب، عنها عند القارئ الذي قد ينصرف عن النصّ كله بمنتهى البساطة لأن العتبة لم ترُق له، والكاتب يدرك تماماً أن عليه أن يُسلّمَ قارئه مفتاحاً ذهبياً ليجعل الدخول إلى عالمه مغامرةً ممتعة وطويلة يتسامح فيها ويتجاوز المنعطفات-الفقرات التي قد تتعبه بكثافتها وجدِّيتها!, كلمة النصّ الأولى هي لحظة الأسْر الخاطفة التي تجمع طرَفيْ لعبة القراءة المنبثقة مع فجر الوعي البشري، فإذا كانت طُعْماً سميناً استسلم القارئ لصيّاده, وإلا انتهى ذلك اللقاء إلى فراق وسوء تقييم!.
كنت في زيارة لبيت أديب كبير مشهور أتناول قهوة مع زوجته أثناء غيابه، ومتذمِّرةً، أشارت إلى مكتبه العامر بالفوضى كما سمّتها، وكان في زاويةٍ هذا المكتب مخطوط رواية ربما بلغ الخمسمئة صفحة صفراء، شاحبة، اختفى لونها تماماً تحت الحروف الدقيقة المتفاوتة في الحجم، المختلفة بألوان الحبر: لم يجد الكاتب غضاضةً في التدوين بالحبر السائل والجاف والأزرق والأسود والأحمر وبقلم الرصاص، ربما بسبب تعدد الأزمنة التي جاء فيها الوحي، فهناك تشطيباتٌ ملأت الصفحات وهوامشَ الورق وحروفٌ ملتوية لا يمكن لغيره أن يفكّ شيفرتها وقت الطبع!, قالت السيدة ممتعضة: هذا الورق الذي ترين، لابثٌ أمامي منذ شهور وممنوع أن أمسّه حتى والغبار يتراكم عليه! إنها الرواية الخامسة التي تعسّرت ولادتها، أتدرين لماذا؟, لأنه لم يستقرّ بعد على الكلمة الأولى التي سيفتتحها بها!, رضي عن كل الصفحات والأحداث والشخصيات وبقيت هذه الجملة اللغز، يكتبها ثم يعدّلها ثم يمحوها، حتى أعفيتُه من كل سؤال يخص حياتنا كي لا أشوّش أفكاره! نعم إنها معاناة الكاتب في أي جنسٍ أدبي! تكون القصيدة والقصة والرواية، بل حتى المقال، مرئياً في الذهن، حاضراً بملامحه العامة، لكنه يحتاج إلى تلك الكلمة-المفتاح التي تهدم الجدار بينه وبين القراء وترفعه إلى مقام عالٍ عندهم! فيما بعد، سمعت أن رواية الكاتب نالت جائزة مهمة من بين عشرات الروايات, ولعل كلَّ روائيٍّ مشارك عانى مما عاناه هذا الفائز، لكن كم من قارئ شعر بهذه المعاناة وهو يتقصى معاناة الشخصيات تتقاطع بينها المصائر وتشتبك في هموم أخرى يكاد وجود الكاتب نفسه يتلاشى وراءها؟.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار