قد تكون روح “الإدريسي” كامنةً في نفوس كل البشر! ذاك الذي سافر من الأندلس ليجوب القفار والبحار قبل أن يرسو في الموانئ يدوّن مشاهداته ويعتني بما خبِرَه عن النباتات والأزهار والغابات التي مرّ بها، ثم تطلع له المدنُ بمواقعها الجغرافية ونمطها المعماريّ وشوارعها وأهلها بعاداتهم وتقاليدهم قبل أن تتّحد هذه العناصر الدفّاقة المتنوّعة في مؤلَّفه الشهير “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” الذي عاد فيه إلى كرويّة الأرض، البيتِ الواحد للبشر، يشتركون ببحاره وضفاف أنهاره ثم يُنزِل منابعَ النيل من قمَر “بطليموس” إلى مكانها الواقعي في أفريقيا، قبل أن ينحدر إلى مصر مروراً بالسّودان!
أبداً، تتوق روح الإنسان إلى تبديل المكان ولو على سبيل النزهة، وأبداً يشتاق الإنسان إلى مكان آخر غير المكان الذي يكدح فيه من أجل العيش يعتاده كما يعتاد ملابسه التي تبلى يوماً بعد يوم، وربما لهذا أقام المتنزّهات، يرتادها ليأخذ منها أنفاسَ عافية، وحتماً لن يكون “إدريسي” آخر يؤلف كتاباً ويرسم خرائط على ورق فضّة في بلاط ملك صقلية “روجر الثاني”، فمطلبُه الترويحُ عن النفس وغسلُ الصّدأ عن القلب، وما من شعبٍ ابتدع طقوساً لنزهاته كما فعلنا في التعلُّق بـ”السيران” نخرج إليه جموعاً عائليّة، نلتمس ضفاف البحيرات والأنهار وظلال البساتين، والدروب المخفية تحت مظلات القصب المرتجَلة على المصاطب، نتخلى فيها عن مطابخنا ونستعيض عن تقاليدها الصّارمة، بنار حطب وأطعمة بدائيّة التحضير قبل أن تقضي الحرب الإجراميّة على هذه المتعة الممتدة في الزّمن، كما قضت على آلاف التفاصيل الجميلة في حياتنا، وقوّضت مع خراب عمراننا كلّ أشواقنا ما خلا منها للأحبة الغائبين شهادةً أو اختفاءً قسرياً أو سفراً، وهُجِرت المتنزهات وبات “السيران” طيَّ الذكريات بربيع أشجاره وغيمات عطره الأرضية وأُنْس أراجيح أطفاله المعلقة على الأغصان المتينة، لكنّ أسطورة الفينيق لابثةٌ في عمق ثقافة هذه الأرض مهما عرفت من ثقافات! أستذكرها وأنا أغذُّ السّير في حيّ الميدان العتيق الذي لم أزره منذ عقود من الزّمان! ليلة الميلاد تنتصب شجرة خضراء عملاقة قرب رصيفِ بائعي الحلوى، في رأسها نجمة فضية وكل أغصانها مشنشلة بزينة أخاذة، تنافس أنوار المساجد بمآذنها المطوّقة بأساور خضراء وجموع الناس في اتجاهيْن متعاكسيْن تشبه جداول رقراقة: أحاديث خافتة وابتسامات ودعوات إلى هذه الحلوى أو تلك، والليل قد انتصف لكنّ الصّحوَ والرضى على كلّ الوجوه! ومن “سيران” الأمس في البراح والطبيعة وزهر اللوز والمشمش والأقحوان وشقائق النعمان، إلى “سيران” اليوم بين المحلات العتيقة والخانات والمساجد والحمّام الشّعبي وسبلان الماء والأقواس الحجرية العالية والأفران الصغيرة والعتبات الخفيضة والأشجار الهرمة، وهاتفٌ عميق في النفس يقول: نزهة المشتاق يجب أن تكون في مثل هذه الأمكنة، نطالعها من جديد ككتاب عظيم، حتى لو لم يضاهِ كتاب “الإدريسي” الذي اعتمده علماءُ الغرب ثلاث مئة سنة بعد تأليفه في القرن الثاني عشر!