مفارَقة من مفارقات هذا الوجود الذي يستعصي على السّبر! يأتيكَ خبر راحلٍ عن الدنيا في موعدٍ لا يتقدّم ولا يتأخر، فإذ به يحضر إليك طاوياً الأزمنة والمسافات والمنطق: شابّاً بشعر مبعثر وضحكة واسعة ومعطفٍ قاتم طويل وحقيبة جلدية تقشّرت درزاتُها وحديثٍ صاخبٍ عن مناضلة أفريقية، ورعونة في التعامل مع فنجان قهوة المقهى، وأجوبةٍ غير مكتملة عن أكثر من سؤال، ثم تخرج شخصية أخرى كلمح البرق من قلب سحابة قاتمة: كهولة مكللة ببياض شَعر وانحساره، وقميص بهيج الألوان وصوت هادئ يتأنى في استخدام المفردات، وكثير من النظريات التي تضبط العلاقات الإنسانية بالصبر والاستيعاب والتجاهل، وتتبدل الصورة بعد ثوانٍ: شخص منعزل في فناء بيت تحت ظلّ شجيرة لم يُتح لها أن تنمو على هواها، لكنها ترافقه بصمت وهو يقرأ كتاباً بملابس بيضاء كمسوح راهب، وإذ تطأ عتبته يهبُّ مرحّباً كأنك منقذٌ من الغرق!
تتكسّر فجأة الأزمنة التي اعتدتَها متسلسلة فيزيائياً، ففي حين يُوارى الغائب في ثرى مكانٍ تحدس، حتماً، أنه في مسقط الرأس لأن الإنسان يغادر هذا المكان إلى كل جهات العالم لكنه يعود إليه بتوقٍ لا يُقاوم، يكون وهو تحت الثرى مازال حاضراً بجوارك، أما الصور التي تزيّى بها فكانت لمواقف لا تزول من الذاكرة، ولها مناسبات تشبه مناسبات التقاط الصور الفوتوغرافية الخالدة، ويفترسك ألم ممضّ: مرّت سنوات ولم نلتقِ! لماذا هذا التقصير والجفاء؟ لأن كثيراً من العلاقات تتلاشى ببطء كدخان الموقد، ولأن بعضها يحمل يباسَه في موسم خضرته، وبعضَها يشبه سفر الطريق لا بدّ أن ينتهي في محطة ما! لكنك الآن تتركه زائراً تتشبّث به وهو يتجوّل في مساحات الظل والصمت حولك، كأنك انتزعتَه من بين المودّعين، مفطوري القلوب، المنتحبين بكل الجوارح، تستبقيه وأنت تُسِرُّ في أذنه أنك تحبّه الآن أكثر فقد كان واحةً لك ذات يوم، وأنقذك من مشاعر كادت تودي بك إلى جريمة بحق نفسك، وفكرت باللجوء إليه حين حسبتَ أن العالمَ تخلى عنك، واستشهدتَ بحكمة له في فضّ نزاعٍ بين شريكين، وكنت معجباً جداً بأسلوبه بالحياة وكان يوصف بالاستهتار والخفة وعدم المسؤولية! غريبٌ هذا الحضور القوي الساطع الذي تغاضى عن الغياب القهري الأبدي، بل ربما كان بسببه، مثلَ حريق مفاجئ أخذ بتلابيب غابة منسية، وبات عليك أن تسكب دموعاً لإطفاء هذا الحريق، فلا منقذ لك من هذه المواجهة إلا أن تبكيه وحدك، وتعانقه وحدك، وترثيه من القلب وحدك! وإذا قال قائل: -لم تحفل به في حياته لتبكيه في مماته، لا تُلقِ بالاً إليه لأن الحياة تأخذكما معاً في دوامتها، لكنها غير قادرة على قطع تلك الخيوط الناعمة، المتينة، التي تدفئك فقط حين تشعر بالبرد، وها أنت ترتعش من البرد على أبواب الغياب الأبدي الذي لا لقاء بعده، لا بترتيب تفاصيله ولا بالمصادفة!