كان يجول في مكتبته، باحثاً عن نسخةٍ من كتاب صدر منذ عامين ثم توقّف ظلُّه في الممرّ الضيق طويلاً، قبل أن يعود حاملاً بيده كتاباً قاتم الغلاف، سعيداً كأنه عثر على صندوق كنوز– لا يمكن أن يكون الكتابَ الذي تبحث عنه! قلت له بملل خفيّ! – أنتِ محقّة، هذا التجليد انقضى زمنُه وزمنُ أهله، لكنه أغلى ما في هذه المكتبة!
خطفَت عيني نظرةً إلى الرفوف الممتدّة من الأرضيّة حتى السَّقف وإلى الكتب المتراصّة حيث لا مجال لواحد منها أن يتنفّس أو يتكئ على جاره، وقد عبرت العناوين كالبرق: أبحاث، دراسات، شعر، رواية، تراث، مجلات متخصِّصة، وهو يواصل بصوت يزداد دفئاً وصفاءً: -هذا الكتاب ورثتُه عن أبي وكان ملكَ جدي، اشتراه حين زار بغداد، وعليه تاريخ الطبع، أواخر القرن التاسع عشر! ومن ذِكْر بغداد ذهب إلى كتاب «الأغاني» ثم إلى قصة الكتاب مع الإنسان:- ألا تلفت نظرك الحفاوة الهائلة التي ترافق كشفَ الآثاريين لمكتبة عمرها آلافُ السنين؟
أنا أعتبرها أهمَّ من القلاع والحصون ومَعاصِر الزيتون والنبيذ فهذه حجارة خطّط لها وشيّدها معماريّون، أما المكتبة فهي روح البشر ومسارُهم في الارتقاء: ضجيج صراعاتهم حول الملكيات والقوانين التي وضعوها لضبط هذه الصراعات، أضيفي نوتات الموسيقا التي حضنت مشاعر الحب والقلق وعبادة الآلهة، واستأنف من دون أن يحفل بإجابتي عن سؤاله: – تعرفين من دون شكّ أن خلود الملاحم التي كتبها الشعراء قبل آلاف السنين كان له سبب، النصّ هو المعدن الثمين الذي لا تبدّل خصائصَه الإضافاتُ الكيميائية، وأذكِّرك أن «الخيميائيين» حاولوا، عصوراً، جعْلَ المعادن «الوضيعة» وسمّاها «ابن حيّان» خسيسة، معادنَ ثمينة، لكنهم ما أفلحوا وبقيت المحاولات جهداً ضائعاً وعبثياً، برغم أن المعادن «الوضيعة» لها استخداماتها البشرية المفيدة، عدا أن ما نراه في عالم الكتاب اليوم من طباعة الرديء لا يقارب فوائدَ هذه المعادن! صار زمن الكتاب المزيّن بغلاف مبهر لرسّامٍ صنع لوحته لجدار أو معرض فإذ بها تُستخدم مصيدة في ماءٍ آخر تضاف إليها عجالة لكاتب مشهور أو مغمور تُطبع على الغلاف الأخير! يضحك بمرارة: -هل تضيف هذه الألاعيب شيئاً إلى «النص»؟؟
هذا أنتجَ آلاف الكتب التي لا قرّاء لها إلا أصحابُها وترك الترويجَ لجهات توظّف هذه «المنشورات» لغاية ليس بينها قدسية الكلمة ولا قيمتها، وهذه القدسية لا يعرفها إلا القارئ المحترف الذي يميز الفكر كما يميز شيخُ الصّاغة المعدن الثمين باللمس قبل أن يضع القطعة تحت مجهره! أعتقد جازماً أن سوق النشر هذا لم يسمع بفشل الكيميائيين في تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، لكنّ الزمن سيعلّمهم حين يريهم الصّدأ والأكسدة على ما كتبوه ونشروه!